شهدت الفترة الأخيرة أحاديث متواصلة ومكثفة حول بناء التوافق الوطني بين الفرقاء فكريا وتاريخيا، وأعني بهم التيارات والقوي السياسية الليبرالية واليسارية من ناحية والتيارات الإسلامية بتنويعاتها من ناحية أخري. وتجددت اللقاءات ما بين حوار وطني ووفاق وطني، وما بين مبادرات تسعي لها القوي السياسية المختلفة بعيدا عن الحكومة. والحقيقة أن نتيجة هذا الدرس الممتد منذ قيام ثورة 25 يناير حتي اللحظة الراهنة هو الفشل والرسوب المتكرر. وهذه النتيجة ليست بجديدة. فبعد أن سعي حزب الوفد للتحالف مع الإخوان المسلمين مضحيا بقيمه الليبرالية، وسار وراءه عدد من الأحزاب الأخري، وبعد أن تم إعلان أكثر من مرة عن أن الإخوان المسلمين يوافقون علي فكرة المبادئ الحاكمة للدستور وإنهم علي استعداد للتوافق وإنهم مؤمنون بالدولة المدنية، يأتون ويرفضون فكرة المبادئ الحاكمة للدستور، ويعلنون إنهم متحالفون مع السلفيين والجماعة الإسلامية، اي مع أكثر الجماعات الإسلامية تشددا وتطرفا. والحقيقة انني سعيدة بما حدث لانه يكشف عن المواقف الحقيقية للإخوان المسلمين بأزرعهم سواء أحزاب أو جماعات، ويكشف زيف حرصهم علي تحقيق التوافق الوطني، وكذلك زيف دفاعهم عن الدولة المدنية. فاي دولة مدنية يتحدثون عنها وهم متحالفين مع التيارات السلفية التي رفعت أعلام السعودية في ميدان التحرير. والحقيقة انه بقدر ما كشف الدرس عن المواقف الحقيقية للإخوان المسلمين، فانه أيضا أدي إلي انهيار أحلام بل أوهام بعض القوي السياسية الليبرالية التي اعتقدت مثلما فعل حزب الوفد وغيره إمكانية التحالف مع الإسلاميين. هذا الموقف الذي اتسم بالانتهازية السياسية الشديدة علي حساب المبادئ والأفكار. ومرة أخري شكرا للدرس لأنه كشف عن انتهازية كثير من القوي السياسية الليبرالية والمدنية، التي كانت علي استعداد للتضحية باي شيء في سبيل أصوات الناخبين. لعبة سياسية كريهة لن يكسب منها سوي المواطن المصري البسيط والذكي الذي يدرك مدي زيف وانتهازية كل الفريقين، وان كلاهما لايستحق أن يعطيه صوته: لا التيارات الإسلامية وفي القلب منها الإخوان المسلمين الذين يفعلون غير ما يعلنون، ولا التيارات الليبرالية الانتهازية التي علي استعداد للتضحية بكل غال ونفيس في سبيل الحصول علي الأصوات. إن السياسة ليست لعبة بلا أخلاق ولامبادئ، ولكنها لعبة لها قواعد وتحكمها قيم. فمن يعتقد انه في سبيل الحصول علي اكبر مكاسب من اللعبة عليه أن يضحي بمبادئه وقيمه وأفكاره، ينظر للمكسب القصير ولايتوقع الخسارة الطويلة التي ستطول كل القوي المخادعة والانتهازية. إن التوافق مطلوب وملح، ولكن لابد أن تكون له أرضية مشتركة: اي قيم ومبادئ حاكمة. واعتقد أن الصيغة الأمثل الآن أن تتم إعادة فرز الخريطة السياسية المصرية علي هذا الأساس وكفي تضييعا للوقت. هناك ثلاث قوي أساسية من الممكن أن تصيغ وتبني تحالفاتها: التيار الليبرالي بأحزابه القديمة والجديدة والتيار الاسلامي بتنويعاته والتيار اليساري أيضا بتنويعاته. إذا حدث هذا من الممكن أن نتصور إنهاء حالة الصراع القائم الآن، وأيضا الخروج من حالة التشرذم السياسي الرهيب ببلورة ثلاث قوي سياسية كبيرة علي الساحة. ولاضير إذا وجد الليبراليون واليساريون وهم من انصار الدولة المدنية أن تحالفهم أمر ممكن.