مؤشرات الثورة ظهرت .. ولگن الدولة استخفت بها جاءت كلمات الشاعر سيد حجاب «يا مصري قوم هش الوطاويط.. يا مصري ليه دنياك لخابيط» تتردد أذهاننا لتتماس مع الأحاديث القائلة إن المصري شخص مستكين وإنه صبور إلي أقصي حد، ولكن «دقت الساعة القاسية» ليفاجأ العالم بمصر، فالأحداث التي تشهدها الآن قد تكون غير متوقعة رغم الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي عاشها الجميع، فمصر كما تقول بعض الصحف الأمريكية والبريطانية كشفت عن هويتها خلال الأسبوعين الماضيين من خلال جيل شاب قاد المعركة وخرج يبحث عن غد أفضل غاب عن سياسات حزب حاكم انفرد بكل شيء، ليسجل الشباب أروع وأنبل وأشجع الأمثلة رغم حديث البعض أنه جيل «ألفيس بوك» ولكنه أوجد من عالمه الافتراضي عالما حقيقيا نعيشه جميعا الآن.. خروج المصريين للشارع له الكثيرمن التفسيرات رغم اعتقادنا بأنها تتضح كوضوح الشمس إلا أن أبعادا أخري تحملها هذه الصحوة المنتظرة، هذا الانفجار كما وصفه الكاتب جلال أمين والذي لا يزال مستمرا «ثورة شعب غاضب» رآه علي وجوه المتظاهرين وفي العبارات التي كتبوها علي اللافتات وأصواتهم مرددين الهتافات له أبعاد أخري حاولنا رصدها أو وضع تفسيرات علي الصورة تكتمل لشعب أراد الحياة يري د. سعيد المصري أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة أن ما حدث لم يكن صحوة مفاجئة بل كانت متوقعة نتيجة مجموعة من العوامل التي تظهر للعيان من فترة ولكن لا أحد كان منتبها إليها فهي لم تكن عفوية، ويحللها المصري من خلال قانون «ماركسي» أن التحول من التغييرات الكمية إلي النوعية يؤدي لأحداث كبري فهناك مجموعة من الأحداث الصغيرة أدت إلي هذا الحدث الجليل «الثورة»، فهي كانت مفاجئة للناس التي اعتقدت أن هناك استحالة أن يجتمع البعض علي كلمة واحدة ومفاجئة للنظام السياسي في مصر الذي تصور أنه بمنأي عن أي حدث ويعتبرهم بعيدين عن هذا ولا يدركون الديمقراطية وقد يكون أيضا مفاجئا للمثقفين في مصر ولكن د. سعيد وضع عددا من المؤشرات التي أظهرت بوضوح قدوم ثورة أولها انخفاض حاد في الثقة المجتعمية خلال السنوات السابقة أي عدم الثقة في النظام الاجتماعي نفسه فلا يثق الشعب في الإحصاءات ولا البحوث ولا أجهزة الدولة ولا حتي النظام وتصاعد هذا خاصة مع ازدياد البرامج التليفزيونية التي تصيدت أخطاء الحكومة وارتفعت نسبة مشاهدتها بين المصريين وهي برامج ال «توك شو» والتي اعتبرت أن هذا تنفيس عن الناس ولكنه كان له تأثير كبير عليهم فنغمة الإجماع علي نقد الحكومة نغمة شديدة الوطأ. وبجانب هذا كان هناك مؤشر آخر يلعب دورا وهو نزول الاحتجاجات إلي الشارع وكأن المصريين كانوا يختبرون أنفسهم في قدرتهم علي الرفض حتي إذا كان هذا النزول بسبب مطالب فئوية أو سياسية ولكنه لعب دورا مهما، ويضيف «المصري» أن الشارع شهد مشاهد مهمة أثرت في وجدانه فيما اعتبره بعض السياسيين مجرد تنفيس يمكن مواجهته بعدم الاكتراث، فجاء الضيق الشديد وشكوي ارتفاع الأسعار حتي أن كثيرا من النزوح الميدانية التي أعدها أساتذة علم الاجتماع كانت تؤكد أن هموم المصريين الأولي هي «غلاء المعيشة»، وبالتالي تسرب إليهم إحساس باليأس والعجز أحيانا كل هذا أكد وجود شيء ما «يختمر» تحت سطح البنية الاجتماعية ولهذا لم يندهش هو شخصيا من حدوث ذلك. يأتي حديث د. سعيد المصري مع وجود دراسة خاصة به تتحدث عن «أحلام المصريين» والتي جاء في مقدمتها حلم الوطن ورئيس عادل ونظام سياسي يتفاعل مع هموم الناس ووطن قوي وهو ما حاولوا البحث عنه في ثورتهم الأخيرة. الضمير الجمعي هذا فيما تري د. هدي زكريا أستاذ علم الاجتماع أن «ضمير الجماعة» الموجه لسلوكها كان مصابا الفترة الماضية نتيجة عوامل كثيرة ولكنه ما لبث أن وعي الأحداث جيدا وهو كان في أوج صحته كما تري أيام جمال عبدالناصر فتجلي في أجمل صوره ولكنها تعود لتركز حديثها علي «الشباب» والذي اختفي من خريطة الحكام العرب فجأة وتم تهميشهم وإقصاؤهم وتجاهل رغباتهم وأحلامهم لدرجة أوصلتهم إلي الانتحار في البحر بدلا من الإقامة في الوطن ولهذا تفسر ما حدث بأنه رد فعل هذا الشباب علي إقصائه والجريمة التي ارتكبت في حقه بجانب إعادة صياغة الضمير الجمعي، وأطلقت عليهم د. هدي «القوي الفاعلة» التي استبعدت عمدا من منطقة الفعل الاجتماعي، وتفسر حالة المرض التي أصابت الضمير الجمعي في مصر بالتدهور في التعليم الذي استبعد معلومات مهمة تشكله مما جعل الكثير من الناس تهتم بالمصلحة وقيم السوق. ويكمل د. كمال مغيث الباحث بمركز البحوث التربوية حديث د. هدي مؤكدا أن الشباب المصري كان لديه إحساس بتهميشه وأنه غير مطلوب ورأي أهم مؤسسات الدولة يتولي مسئوليتها رجال أعمارهم بين 60 و 80 سنة، وخرج مغيث بين الفقراء وشباب ال«فيس بوك» فكلاهما ينقصه شيء ما، كلاهما أكمل الآخر فالفقراء شعروا بفقرهم ولا عمل لهم أو سكن وشباب «الفيس بوك» شعروا بعدم وجود آفاق جديدة للديمقراطية خاصة مع اطلاعهم علي أحداث العالم فتكاملت ثورتهم ومع غياب العدالة الاجتماعية لا يحتاج الوعي إلي إشارة. وأضاف مغيث أن التعليم لم يلعب دورا في هذا الخروج لأنه يخلق شخصية مستحقة مطيعة وليست لديها حرية فكر أو نقد ولا تعي التغيير كما يفرز التعليم المصري ولكنه لم يلعب دورا في الثورة ولكن الثورة المعلوماتية والإيمان بالحرية هو المحفز الأول لهم. ويتابع مغيث قائلا: إنه بدأ يعيد التفكير في مشكلات المجتمع المصري خاصة مع اعتقاده السابق بعدم خروج الشباب في ظل عدم وجود مشروع قومي يبني أحلامهم كما كان جيله وتساءل: هل نحتاج لخمسين عاما أخري للثورة، ولكن ما كان هو مجرد تراب علي جوهر أصيل. الدرس الثاني بينما اعتبر د. عماد جاد الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية الاستراتيجية أن الجيل الحالي من الشباب هو أفضل جيل أنجبته مصر علي الإطلاق منذ ثورة 1919 لأنه علم الجميع دروسا في الوطنية والوحدة الوطنية وكسر حاجز الخوف لدي الكبار قبل كسره لديه فكان أكثر ليبرالية من وجهة نظره، فصنع ثورة ولم ينتظر كبارا يضعونها له، ويري جاد أنه جيل يؤرخ له ومصر لن تري جيلا مثله قبل خمسين عاما، فالجميع أخطأ في قراءته واعتقاده أنه غير وطني وغير مهتم بالمجال العام «وبتاع كورة»، ولكن أثبت العكس، ولهذا يعتقد جاد أن ما حدث هو الدرس الثاني الذي علمه جيل الشباب للجميع لأن الدرس الأول كان في الدروع البشرية التي صنعها من قبل حول الكنائس. وترجع الكاتبة سكينة فؤاد ما يحدث للتراكم التاريخي فالرصيد المصري كبير فهو قادم من حضارة عريقة ويعيش تحت ظروف ضاغطة وقاهرة، فجاءت ثورة المعرفة والتقنيات الحديثة وحصاد التاريخ، والألم والمهانة وقانون الطوارئ والحبس الاحتياطي ونماذج خالد سعيد إضافة إلي حصاد الإحساس بفقد البلد دوره ومكانته وحصاد رفض الهيمنة الأمريكية والمنقوع اليومي لقضايا الفساد وما قيل عنه عالما افتراضيا ال«فيس بوك» والإنترنت ولكنه ظهر كعالم حقيقي، سكينة فؤاد قدمت في عدد من مقالاتها دعوة لعبور جديد تشعر كما تقول إنه تحقق وحقق أملها وصدق تفاؤلها. ويقول الروائي الكبير بهاء طاهر إن ما حدث فاجأه بالفعل كما فاجأ العالم كله لأنه يتذكر خروجه ضمن مظاهرة من 200 شخص يحاصرها آلاف عساكر الأمن المركزي ولم يكن ليتصور أن يهزم الشباب هؤلاء ويصمد أمام كل هذه الحشود بل ينتصر، ولهذا يراه جيلا قادرا علي الصمود وفرض إرادته علي قوي القمع في مصر، بهاء طاهر شارك في إحدي مظاهرات ثورة ميدان التحرير ليجد شابا يخرج ويقبله قائلا له: «احنا بنكمل اللي عملتوه» وهي جملة أثرت فيه بشدة ورد عليها قائلا ما قمنا به لا يأتي عُشر ما تقومون به. وتطلق د. ثريا عبدالجواد أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة المنوفية، علي الشباب «ترمومتر المجتمع المصري» فجاءت ظروف الكبت والسياسات الاقتصادية للدولة المؤثرة عليهم لتفرز عن ما يحدث الآن مع تنامي وعيهم عبروا عما يجيش في أنفسهم من قمع وقهر وعدم مشاركة تعرضوا لها وهناك جانب آخر مهم وهو النظر إلي الشعوب الأخري وما حققته من إنجازات فكانت «ردة الفعل» مع عدم إدراك الدولة لما يحدث وعمليات التغييب لوعيهم التي حاولت فرضها، ولكن وسائل الإعلام والتقنية الحديثة حولتهم لقوة داخل مجتمعهم واتخذوا مبادرة الثورة التي التفت حولها فئات اجتماعية أخري مهمشة أيضا.