في معرضه الأخير والمقام حاليا بأتيليه القاهرة، يقدم لنا الفنان التشكيلي الكبير عزالدين نجيب تجربة في التحدي وكيفية الخروج من الأزمة التي تعرض لها بعد الحريق العاصف الذي ألمّ بمرسمه في منتصف ديسمبر الماضي والتهم عددا كبيرا من لوحاته المعدة للعرض، بالإضافة إلي مكتبته ودراساته وأرشيفه. كان المعرض سيحمل عنوان «فانتازيا الحجر والبشر» لكن بعد الحريق اختار له عزالدين نجيب عنوان «عصفور النار» وهو عنوان لمعرض أقامه عام 1976 بعد حريق مرسمه بالمسافرخانة، وبالإضافة للوحات الناجية من الحريق وعددها 40 لوحة، أصر «عزالدين» أن يعرض صور بعض اللوحات التي احترقت كحالة توثيقية.وعن هذه الحالة يقول عزالدين نجيب: «قدر الله وما شاء فعل وكانت له ولا شك حكمة في أن أولد من جديد من قلب النيران، وأن أشهد لوحاتي التي ولدت مني وهي تحترق وتذوب قطعة قطعة أمام عيني، وأنا أحترق من الداخل عجزا عن إنقاذ صورها الفوتوغرافية في أدراج المكتب كشهادات ميلاد علي وجودها يوما.. نعم أشكر الله علي أنني ولدت من جديد لأقيم هذا المعرض بما تبقي بعد الحريق من لوحات.. فلها حق الوجود، ولي حق وواجب المقاومة والمواصلة كما تعودت طوال حياتي فقد واجهت المحن الكبيرة مرارا وتكرارا ولم ينكسر ظهري ولم أتوقف عن المسيرة أملي أن أكون قد ولدت من النيران مطهرا وأكثر إيمانا وقدرة علي الحب والتسامح بعد أن قابلت الموت بكل أهواله وجها لوجه، وأن أجد القوة للإبداع والعطاء من جديد فبدونهما يصبح الموت حقيقيا. وعن لوحات معرضه - ما بقي منها وما احترق - يقول عزالدين نجيب: هي لوحات فيها من غرائبية الواقع والوجود ما يتواشج مع ما حدث لي غير مرة.. إن هاجس الإطلال الباقية من مدننا المندثرة لم يبرح وجداني وفكري منذ أكثر من ربع قرن، متوازيا مع ما ينتاب الوطن من أحداث ففي هذه الأطلال خلاصة ما مضي وانقضي بكل ذكرياته وعنفوانه، وفيها نبض المقاومة والصمود ضد الفناء، حتي ولو واجهت الأحياء/ الموتي من البشر الذين تحجرت نفوسهم في خضم التحولات الكاسحة. الاحتفاء بالظل في عام 1984 أشار الفنان والناقد الراحل محمود بقشيش إلي أهم ما يميز تجربة عزالدين نجيب وهي احتفاؤه بالظلال قائلا: «لقد فرض «الظل» حضورا أغري «عز» بوضعه موضع البطولة في أغلب اللوحات إن لم يكن كلها، فأعطاه - أي الظل - دور ربط العناصر الرئيسية في التكوين، ونوّع مواقعه، فقد يأتي مثلا من مصدر مجهول، وقد يحتل بؤرة اللوحة، في واقع حاد، تخترقه بؤرة ضوئية، تبدو مباغتة، أقرب إلي الطلق الناري، وتسمح الظلال بظهور شبح إنساني يحاول منازعة فجوة الضوء ويترك في النفس أثرا مبهما». وهذا التنوع الذي يشير إليه «بقشيش» في عبارته السابقة - أعتقد أنه ينبع من الطابع التجريبي الذي تتسم به الرؤية التشكيلية عبر استخدام مزيج لوني يختلف كثيرا عن الألوان العادية، فعادة لا يستخدم عزالدين نجيب الألوان الساطعة، دائما يميل إلي الألوان الهادئة، التي تقترب من اللون الحقيقي للحالة التي يرسمها، خاصة البيوت والبشر وهم أبطال معظم لوحاته، كما في معرضه الأخير الذي ينحاز للإنسان قبل المكان حتي وإنكان هناك احتفاء عارم بالمكان، كأنه يقول «إن القيمة الحقيقية للمكان» هو ذاك الشريان الإنساني الممتد عبر أجيال متعددة تعطي للمكان قدرته علي البقاء. قوة الحياة وربما ذلك ما أشار إليه المخرج سيد سعيد عام 1992 حين قال في مقال له: «إن تجريبية عزالدين تنتزع إلي اقتحام الشكل وليس إلي تحريفه، حيث يخلصه من سكونيته، فتصبح الكتلة الباردة زاخرة بالعاطفة، وتتمخض عنها كيانات تستمد قوة الحياة من تضاريس الكتلة فتمنحها قوة تعبيرية». وربما هذا أيضا ما يؤكده عزالدين حين يقول عن معرضه: هو ظلال للأماكن من خلال إعادة صيغة لكل ما يراه للإنسان بعينه أو ببصيرته، هذه الأماكن انعكاس لأحلام الفنان، دائما ما كنت أتطلع إلي هذه الأماكن بما تحمله من بصمات للتاريخ والحضارة القديمة التي عمرها البشر وتحولت الآن إلي أطلال. فهذه الأماكن ليست جمادات وإنما كائنات بشرية وبقايا عمارة، عندما يتأنسن الحجر. فالجديد في هذا المعرض هو وجد البشر بأجسامهم الحية كما يبدون في حوار مع الحجر، هناك كذلك تلك الجدلية الأزلية بين الموت والحياة، فهناك محاولة للخروج من حالة انغلاق الحس الإنساني، حيث رحابة الحنين إلي الماضي. ويضيف: أحاول من خلال اللوحات أن أطرح فكرة الاغتراب عن الزمن الحاضر إلي الزمن الماضي، وهذه الحالة جعلتني أختار الألوان التي تحمل درجة من الشفافية أكثر من الألوان المباشرة، فأنا دائما لا أميل إلي اللون المباشر، دائما أميل إلي ما يشبه اللون من خلال عملية التوالد اللوني. والجديد في المعرض هو المزاوجة بين الحجر والبشر في نسيج واحد. العنصر الثاني فيه هو تجسيد الطبيعة في شموخها من خلال عناصرها الأسطورية، ويوجد ذلك في عدة لوحات فهناك لوحة اسمها «المارد» وأخري اسمها «العمالقة»، في وقت الإنسان العصري يزداد تضاؤلا وهذه هي المفارقة التي أطرحها.