فاجأت السعودية العالم باعتذارها عن عدم قبول المقعد غير الدائم في مجلس الأمن الدولي الذي انتخبت له، بالرغم من كونها دولة مؤسسة للأمم المتحدة، ولم تحظ في تاريخها بعضوية مجلس الأمن الدولي من قبل. وازدادت المفاجأة هولاً عندما صدر بيان الخارجية السعودية الرافض لقبول المقعد، في الوقت الذي كان فيه الموقع الإلكتروني للبعثة الديبلوماسية السعودية بالأممالمتحدة مستمراً في تلقي التهاني والتبريكات بالحصول علي العضوية المنتظرة في مجلس الأمن الدولي. وفيما اعتبر السفير السعودي لدي الأممالمتحدة عبدالله المعلمي عقب التصويت أن »انتخاب بلاده في مجلس الأمن الدولي لحظة تحول في تاريخ المملكة«، فقد كان لصانع القرار السعودي رأي مخالف في اللحظات الأخيرة .تضمن بيان الخارجية السعودية أسباباً متنوعة لرفض المقعد تراوحت بين »غياب التقدم في القضية الفلسطينية، الفشل في إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، والفشل في فرض عقوبات رادعة علي النظام السوري«، ثم زاد البيان سبباً إضافياً يتمثل في أن »المعايير المزدوجة وطريقة وآلية عمل مجلس الأمن ستمنعه من التصرف بفعالية«. يقتضي الإنصاف القول إن كل هذه الأسباب صحيحة ومعلومة، إلا أنها لا تفسر شيئاً من الحسابات السعودية مع ذلك، لأن تلك الأسباب كانت قائمة أيضاً قبل عام إبان بدء حملة الديبلوماسية العامة السعودية للحصول علي المقعد. وقتها خاضت الرياض حملة للديبلوماسية العامة، ناجحة ومكثفة، علي مدار عام كامل بين الدول الأعضاء في الأممالمتحدة، خصصت لها الكثير من الجهد والمال للوصول إلي المقعد المرموق الذي انتخبت له في النهاية… قبل أن تعود وترفضه في اللحظات الأخيرة. قوة الدفع أوكل ميثاق الأممالمتحدة الذي صيغ علي هدي من توازنات النظام الدولي لمجلس الأمن مهمة حفظ السلم والأمن الدوليين، بحيث تكون قراراته ملزمة للدول الأعضاء في الأممالمتحدة. يتكون مجلس الأمن من خمسة عشر عضواً، خمسة دائمون (أمريكا وروسيا والصين وانكلترا وفرنسا) وعشرة مؤقتون ينتخبون دورياً لمدة سنتين. ولأن تمرير أي قرار في المجلس يتطلب الحصول علي تسعة أصوات حسب المادة الرقم 27 من ميثاق الأممالمتحدة، يعني ذلك حضوراً دائماً للدول الأعضاء غير الدائمين في القرارات الدولية وموقعاً دولياً لا يستهان بتأثيره. لذلك تتسابق دول العالم المختلفة للحصول علي عضوية مجلس الأمن الدولي؛ بسبب الفوائد الإيجابية التي تضفيها العضوية علي صورة الدول الأعضاء في العالم؛ ونظراً لقوة الدفع الإضافية التي تكتسبها حملات الديبلوماسية العامة للدول الأعضاء بالمجلس. يمثل مجلس الأمن أعلي هيئات النظام الدولي الراهن، الذي يقرر بالتصويت أو بالتجاهل مصائر قضايا كبري في العالم، وهي حقيقة لا تغيب عن صانع قرار السياسة الخارجية السعودية. أثبت الأخيرة مهارات وقدرات في أزمات مختلفة وفي محطات تاريخية متباينة – سواء اتفقت أم اختلفت معها – وبالتالي لم تغب أهمية العضوية في مجلس الأمن عن الرياض بأية حال. تضارب الرؤي لا يخفي أن السعودية ممتعضة من إدارة أوباما، وبلاده هي القطب الأعظم في النظام الدولي حتي الآن. وإذا وضعنا الأمور في سياقها ، لوجدنا أن الرفض السعودي لمقعد مجلس الأمن يأتي بعد أسابيع قليلة من رفض وزير الخارجية السعودي إلقاء كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، اعتراضاً علي سياسات المنظمة الدولية والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن حيال القضايا العربية. تعلم الرياض، التي تعيش أزمة مع إدارة أوباما منذ فترة ولايته الثانية علي الأقل ، أن المنطقة ستشهد في الفترة المقبلة توزيعاً جديداً لموازين القوي فيها. لم تعد نظرة البلدين لقضايا المنطقة متطابقة أو حتي متوافقة، لأن ركاماً كبيراً من القضايا يكرس ذلك الاختلاف في الرؤي. ويزيد من حدة الأزمة أن الملفات الخلافية بين الطرفين، هي الملفات المفتاحية في ترتيب التوازنات الإقليمية المقبلة. علي ذلك تواجهت الرياض مع واشنطن في مصر، فساندت الأولي الانتفاضة الشعبية المصرية الثانية في 30 يونيو 2013 والسلطة الجديدة الناشئة علي أثرها، فيما كانت الثانية تفضل بقاء جماعة »الإخوان المسلمين« بالسلطة. وأبرزت الرياض في أكثر من مرة امتعاضها من فشل إدارة أوباما في حمل دولة الاحتلال الإسرائيلي علي إيقاف المستوطنات بالأراضي الفلسطينيةالمحتلة العام 1967، لأن ذلك سيخرب مسار التسوية السياسية للقضية الفلسطينية الذي تتبناه الرياض والعواصم العربية. ومع فشل مسار التسوية السياسية بسبب ضعف أوباما، ينفتح الباب واسعاً أمام القوي الراديكالية في المنطقة لإمساك ورقة فلسطين والضغط بها وعبرها معنوياً وأدبياً علي الدول العربية. كما أن معاداة الرياض للنظام السوري باعتباره مطل إيران علي البحر الأبيض المتوسط، دفعتها إلي الذهاب بعيداً في مواجهته بالمال والسلاح والديبلوماسية. ولكن مع نجاح المبادرة الروسية بنزع السلاح الكيماوي السوري، فقد انتقل عنوان الأزمة السورية إلي مسار آخر لا ترضي عنه الرياض. ومن المعلوم أن المسار الجديد نتج من ورطة أوباما حيال الضربة العسكرية، وتفاهمه الاضطراري مع روسيا علي الملف السوري. وزاد في طنبور التصادم نغمة أن التقارب الإيراني – الأمريكي الناشئ والمتبلور في الأسابيع الأخيرة مرشح للتصاعد أكثر في الفترة المقبلة، مع ما يعنيه ذلك من إعادة تشكيل لميزان القوي الإقليمي بشكل يتصادم مع نظرة الرياض للمنطقة وتوازناتها. تكلفة العضوية بالرغم من المميزات السالفة للعضوية في مجلس الأمن، إلا أن هناك التزامات ستترتب علي المملكة العربية السعودية في حال قبولها العضوية فيه، ضمن سياق التصادم الحالي في الرؤي مع واشنطن حول ملفات المنطقة. يختلف الموقف السعودي الآن عما كان عليه إبان الحملة الديبلوماسية السعودية للحصول علي مقعد مجلس الأمن قبل عام، وقتذاك كانت هناك رؤية مشتركة بين الرياضوواشنطن حيال سوريا، وعلاوة علي ذلك لم يكن هناك تقارب إيراني – أمريكي في الأفق. تعني هذه الالتزامات أن تراجع الرياض عن مواقفها لمسايرة العضوية في المجلس سيفقدها صورتها في المنطقة، مثلما يؤدي تمسكها بمواقفها إلي إظهار الأزمات المكتومة مع واشنطن إلي العلن، ما يفاقم هذه الأزمات أكثر فأكثر. تفضل الرياض تاريخياً الديبلوماسية الهادئة من وراء الستار لطرح وجهة نظرها علي صناع القرار مباشرة بغرض التأثير في رؤيتهم للقضايا المختلفة، وبالتالي لا تحبذ طريقتها الديبلوماسية كثيراً النقاشات العلنية حول القضايا المختلفة. ومع علم الرياض بتضارب رؤاها مع واشنطنوروسيا في ملفات المنطقة الأهم، فلن يكون مفيداً التعبير عن تلك الرؤية في مجلس الأمن طبقاً لحسابات العائد والتكلفة في الرياض، والأخيرة لا تستطيع كدولة مؤقتة العضوية تشكيل عائق تصويتي في المجلس في حال قبولها تلك العضوية. بالمقابل لن يغير الرفض السعودي لمقعد مجلس الأمن من سياسات موسكو وبكين تجاه القضايا التي تتقاطع السعودية معها، خصوصاً الأزمة السورية، ولن تعدل إدارة أوباما من سياساتها الشرق أوسطية الجديدة، وفي القلب منها الانفتاح علي إيران، بسبب ذلك الرفض. يعد المثال الأكبر علي حسابات العائد والتكلفة لمقعد مجلس الأمن حالة لبنان بين عامي 2010-2011، إذ كان التصويت علي أي قرار يمس دولة إقليمية نافذة في بيروت بمثابة أزمة حكومية لبنانية. وبالرغم من الكفاءات العالية والمتميزة للسفير اللبناني في الأممالمتحدة نواف سلام، إلا أن العضوية في مجلس الأمن لم تكن نعمة علي لبنان أو استقراره السياسي، وإنما العكس لأسباب تخص النظام السياسي اللبناني وليس شخص السفير. وإذ يختلف النظام السياسي في السعودية عن مثيله في لبنان بحيث لا يمكن موضوعياً عقد المقارنة بينهما، إلا أن الدرس المشترك هنا هو التكلفة العالية للعضوية في مجلس الأمن: بسبب الانقسام السياسي الداخلي في الحالة اللبنانية، وبسبب السير عكس التيار الدولي في الحالة السعودية. الخلاصة أظهرت السعودية امتعاضها من النظام الدولي عموماً والولايات المتحدةالأمريكية خصوصاً، وبشكل غير مسبوق في تاريخ الأممالمتحدة، عبر رفض مقعد مجلس الأمن الذي وصلت إليه بالانتخاب. وإذ جاء القرار السعودي بمثابة مفاجأة كبيرة، فإن أسباب الرفض تعود في العمق إلي حسابات العائد والتكلفة من المنظار السعودي، وليس فقط الاهتمام بإظهار الامتعاض من »المعايير المزدوجة« لأمريكا ومجلس الأمن. رفض العضوية في مجلس الأمن ليس نهاية المطاف في المواجهة بين واشنطنوالرياض التي يتوقع أن تتفاقم في المرحلة المقبلة، بسبب التضارب في الرؤي بين العاصمتين علي ملفات الشرق الأوسط الكبري، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا التضارب الرؤي يغير الآن بالفعل حسابات ومعادلات وتوازنات في المنطقة. يشبه الشرق الأوسط مسرحا كبيرا للعبة الكراسي الموسيقية التي تتبدل فيها الأحوال والمواقع والتحالفات، والدليل الأسطع علي ذلك أن معطيات اللحظة الراهنة تفيد بأن إيران تفاوض أمريكا… والسعودية تمانعها! نقلا عن جريدة السفير