وإذ نواصل رحلتنا نتوقف عن محطة بالغة الأهمية في تاريخ النضال الليبرالي والفهم الصحيح للدين وهي كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبدالرازق، وهو عالم جليل عضو أو بالدقة كان حتي صدور كتابه عضوا في هيئة كبار العلماء.. وقد تحدث في كتابه باستنارة وشجاعة ورؤية تجديدية أفزعت قوي التخلف والتأسلم، وللشيخ مقال أكثر من رائع نشره في مجلة الهلال عدد أغسطس 1928، وعنوانه «السفور والحجاب علي ذكر كتاب الآنسة نظيرة زين الدين» وقد حاولت جهد الطاقة العثور علي الكتاب دون جدوي، ولكن في تعليق الشيخ علي عبدالرازق عليه ما يكفي ويزيد، ونقرأ كان أمر السفور والحجاب من المسائل التي غلت بين المصريين واشتدت حينا من الزمن، لكن نحوا من عشرين عاما قد مضت عليها فاستقر غليانها وارتدت فاترة لا يكاد يسيغها الذوق، وبالية لا تثير بهجة ولا لذة ولا إعجابا، وإني لأحسب أن مصر قد اجتازت بحمد الله طور البحث النظري في مسألة السفور والحجاب إلي طور العمل والتنفيذ، فلست تجد بين المصريين إلا المخالفين منهم من يتساءل اليوم عن السفور وهل هو من الدين أم لا؟ ومن العقل أم لا؟ ومن ضروريات الحياة الحديثة أم لا؟ بل تجدهم وحتي الكثيرين من الرجعيين منهم يؤمنون بأن السفور دين وعقل وضرورة لا مناص لحياة المدنية الحاضرة عنها، ولكن العقبة الجديدة التي تواجه المصريين اليوم إنما هي الوسيلة التي يتدرجون بها إلي السفور الفعلي تدرجا لا يكون فيه منافرة بين ذوق الحجاب القديم وذوق السفور الجديد، فإن الرجل والمرأة بالطبيعة يحرص كل منهما علي استرضاء الآخر وموافقة ذوقه، وذلك الحرص الطبيعي من المرأة علي موافقة ذوق الرجل، هو فيما نظن العقبة الوحيدة التي يوشك أن يجتازها المصريون إلي السفور الكامل الشامل، لا أثر فيه للحجاب إلا قليلا ويمضي الشيخ علي عبدالرازق قائلا «إنا لنغتبط من جهات كثيرة بكتاب الآنسة نظيرة زين الدين، وأهم هذه الجهات في نظرنا أن تنهض شابة فتية من بنات الشرق بالعودة إلي ما تعتبره إصلاحا، وإن كان في ذلك خروج علي المألوف وإن خالفت في ذلك رأي الشيوخ ورأي المتقدمين» ويمضي الشيخ علي ليهاجم الخائفين من إعلان رأي إن خالف رأي المجموع ويقول «فأولئك ليسوا بأنفع للبشرية من أهل البله الذين لا يميزون بين خير وشر، بل وربما كان أولئك في سكوتهم عما يعرفون، وفي إعراضهم عما انكشف لهم من الحق أحط درجة من الحمقي والمغفلين، والحقيقة أن الذي ينقصنا إنما هو الشجاعة في الرأي، وقول الحق من غير تردد ولا رياء، فهذا هو مبدأ الكمال الإنساني، وهنا تختلف أقدار الناس فمصلح ومفسد وشجاع وجبان، لكن الشيخ يحذرنا وبشدة من أن نخلط في حواراتنا وتجاذب آرائنا بين ما هو ديني وما هو اجتماعي ومن هنا يوجه نقدا لمؤلفة الكتاب طالبا منها ألا تلتفت إلي مثل هذه البحوث النظرية وألا تتشبث بها كثيرا فيقول «وكذلك للآنسة المصلحة ألا تعن نفسها مرة أخري، ولا تصرف وقتها ومجهودها في مجال الجدل، وخصوصا الجدل الديني، فلقد علمتنا التجربة في مصر أن السفور كبعض مسائل الحياة الأخري إنما يمكن حله من طريق العمل لا من طريق البحث والجدل، ولقد يكون في الجدل أحيانا لذة علمية أو رياضة عقلية، وقد يكون نافعا في مجال الدعوة والدعاية أي البروباجندا لمذهب من المذاهب، ورأي من الآراء، فأما في مجال العمل فقد يكون الجدل ولاسيما الديني منه أشد ما يعوق العاملين، وأضيع ما يكون لجهاد المصلحين.. أو قد نستطيع أن نفترض رجلا من خصوم السفور، ينهض للرد علي ذلك الكتاب، فما أهون أن يسوِّد كتابا أضخم من كتابها ويحشر فيه من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة أكثر مما فعلت، ويزج فيه من المباحث والأفكار مزخرفة برائع البيان والأحاديث الشريفة أكثر مما فعلت، ويزج فيه من المباحث والأفكار مزخرفة برائع البيان وحسن الترتيب ورونق الطبع ما يرويه علي الأنسة حتي تشعر بأنها محتاجة إلي وضع مؤلف جديد تدافع فيه عن نفسها وعن كتابها، وهكذا يبقي الناس دواليك بين يدي الآنسة وخصومها، ولا يستقر لهم رأي ما بقي في الجانبين قلم يسطر ومطبعة تنشر، ثم يختتم الشيخ علي عبدالرازق مقاله محذرا «وفي الجد أننا أصبحنا نعتقد أن من الواجب علينا أن نحول بين الجدل وخصوصا الديني وبين شئون الحياة الاجتماعية العلمية، بقدر ما يجب أن نحول بين حركة النهوض في الشرق وبين كل ما يعوق ذلك النهوض. ويبقي أن نقول إن الكتاب صدر والمقال نشر وتقبله الأنصار برضاء وتأييد أما الخصوم فقد لزموا الصمت ودون ضجيج أو تكفير.. فقد كانت العقول جاهزة لقبول الرأي والرأي المضاد.. ولم يحدث صراع ضار وغير مستساغ ضد حرية الرأي إلا بعد ذلك بعامين أو ثلاثة عندما نهض الشيخ رشيد رضا وحسن البنا وغيرهما بالهجوم علي الفكر الليبرالي باعتباره فكرا غربيا ومعاديا للدين ولمصالح الوطن.