درس مستفاد من الثورة الفرنسية أمام مشاعر الأسف و الأسي التي تجتاح الشعب المصري نتيجة تراخي و خوار حكومة ثورة 30 يونيو، وعجزها عن مواجهة شراذم خصومها في الداخل والخارج،بما يهددها بالفشل،لم أجد بداُ من العودة إلي مقال كتبته منذ أربعين عاماً لأعيد نشره كي يتعلم أصحاب القرار في مصر الدرس الأول عن"ماهية الثورة".. وكيف تواجه خصومها؟ كان عنوان المقال:"المواجهة تجربة فرنسا الثورة".وقد نشر بمجلة"روز اليوسف عدد2347 وهو بالغ الدلالة علي وعي قادة الثورة الفرنسية،فكان لذلك من أهم أسباب نجاحها رغم ضراوة قوي"الثورة المضادة"في الداخل و الخارج. وقد صدر المقال بعبارة"دانتون"أحد قواد الثورة"الإقدام..الإقدام..و الإقدام دائماً" وقول"سان جوست"أحد قوادها أيضاً:"لا يمكن أن تنجح ثورة ما، دون حكومة ثورية".. وإليكم نص المقال: تشكل الثورة الفرنسية معلماً مهما علي طريق تطور الإنسانية ، ذلك أن النتائج الباهرة التي ترتبت عليها لم تقتصر علي فرنسا و حسب و إنما امتد إشعاعها ليشمل أوروبا بأسرها فأطاح بالنظم الاستبدادية و الأوضاع الإقطاعية و الإمبراطوريات الرجعية ، و مهد الطريق للديمقراطية و الاشتراكية والقومية الحديثة.. لقد بقي شعار"الحرية و الإخاء والمساواة"الذي طرحته الثورة الفرنسية شعاراً للمناضلين في أوروبا طوال النصف الأول من القرن التاسع عشر وظل"إعلان حقوق الإنسان"و هو أروع ما تمخضت عنه الثورة عقيدة و مطلباً استهدفته الحركات الثورية الأوروبية لأكثر من ربع قرن بعد نجاح الثورة الفرنسية ذاتها. فارق جوهري و لطالما أشار الباحثون إلي الفارق الجوهري بين إعلان حقوق الإنسان و بين الماجناكارتا أو"العهد الأعظم" أعظم ما اسفرت عنه الثورة الدستورية في انجلترا فبينما يحتوي الأخير علي تحديد الحقوق التاريخية و القانونية للشعب الإنجليزي حيال التاج،يتكلم الإعلان الفرنسي بلسان الجنس البشري برمته فيصوغ مبادئ أخلاقية عالمية تضمن للإنسان حقوقه الطبيعية في الحياة. و بديهي أن ترتعش عروش الرجعية الأوروبية و ترتاع لنجاح الثورة في فرنسا.و بديهي أيضاً ان تنتشر مبادئ الثورة بين الشعوب انتشار النار في الهشيم،و إذ وقفت الحكومات الرجعية من الثورة موقف الخصومة و العداء و دخلت في محالفات وائتلافات لمحاصرة الثورة و إجهاضها،فقد تعاطفت"الإنتليجينسيا"الأوروبية عن بكرة أبيها مع الثوار..هبت الرجعية الأوروبية لمناوأة الثورة في مهدها،فتكون"الإتلاف الأوروبي الأول"من بروسيا والنمسا و بريطانيا و هولندا و أسبانيا و سردينيا سنة 1937 لهذا الغرض،و تواطؤا مع القوي العميلة داخل فرنسا لاستعادة نفوذ الملكية المطلقة.و رد الثوار علي هذا التحدي بإعدام لويس السادس عشر و إعلان الجمهورية،و كان إعدامه كما ذكر دانتون"لقد أعلن الحرب علي الملوك و ألقي القفاز في وجوههم طلبا للمبارزة، و لم يكن ذلك القفاز إلا رأس الطاغية. الثورات المضادة كانت ظروف الثوار عصيبة ، فالجيوش الغازية تتقدم داخل الأراضي الفرنسية مدعومة بالمهاجرين الفرنسيين الذين غادروا البلاد بعد قيام الثورة ، وعوامل الخيانة تعمل عملها بين قيادات الجيش الفرنسي ،والثورات المضادة تندلع في الداخل وتقتطع أقاليم برمتها عن نفوذ الثوار مثل ليون وأورليان و روان و لافاندير،حيث قادها النبلاء وكبار الملاك و باركها القساوسة و رجال الدين. و لقد أتاحت تلك الظروف العصيبة للجناح الثوري المتطرف أن ينفرد بالسلطة و يقبض علي زمامها بيد من حديد،و تشكلت حكومة "اليعاقبة" من نفر من المخلصين المتعصبين لمبادئ الثورة إخلاصاً يكاد يبلغ حد التدين،و أعلنت الحكومة أن"الدولة في خطر"،"فالثورة بين نارين،عدو علي الحدود و عدو بالداخل،و لابد من إرهاب العدو إن أريد للثورة البقاء و الاستقرار"هكذا أعلن دانتون زعيم اليعاقبة و كان لابد من إجراءات استثنائية تتيح للحكومة أن تتصرف بسرعة و سرية و حسم دون نظر إلي قواعد و قوانين. ولقد استهدفت الاجراءات الاستثنائية تقوية قبضة السلطة لتعقب أعداء الثورة دون هوادة،ثم الإعداد للحرب إعداداً شاملاً،فتمركزت السلطة في يد"لجنة الأمن العام"التي حكمت البلاد حكماً مطلقاً لمدة عامين كانت خلالها تتخذ من الإجراءات ما كفل للبلاد الخلاص و النصر، وكانت تتكون من خمسة أعضاء،فأشرف روبسبير علي شئون التعليم و الفنون الجميلة،و سانت جوست علي التشريع و القوانين،و يربوا وفارن وكونون علي شئون السياسة الداخلية، و تنفذ قرارات هذه اللجنة"هيئة تنفيذية"تمارس اختصاصاتها في الشئون السياسية و إدارة البحرية و تنظيم الجيش و شئون الإدارة الحربية و مصانع الجيش و خدمة المستشفيات والنقل والإدارة المالية. وأصدرت اللجنة قراراً بتشكيل قوة ثورية قوامها ستة آلاف من المشاه و ألف و مائتان من المدفعية تكون تحت تصرف اللجنة لتقوم بتنفيذ أوامرها. وفيما يتعلق بمواجهة أعداء الثورة في الداخل اتخذت اللجنة عددا من الإجراءات كان من أهمها: أولاً: إصدار قانون "المشبوهين" لتعقب و مطاردة المناوئين للثورة و المشتبه في أمرهم و يدخل في عداد هؤلاء كل من يبدو في مسلكه أو علي علاقته بالغير و أقواله أنه عدو للحرية،كذلك كل الذين يتقاعسون عن تأدية واجباتهم كمواطنين ثوريين،فضلاً عن أقرباء المهاجرين الذين لا يظهرون في سلوكهم ولاء للثورة. محكمة الثورة ثانياً: إنشاء محكمة الثورة لردع الذين اشتركوا في الثورات المضادة و الفتن بقصد التعاون مع الغزاة.هؤلاء اعتبروا"خارجين علي القانون"و كان بوسع المدعي العام إلقاء القبض علي من تتهمه السلطات بالخيانة العظمي و محاكمته علي عجل وإعدامه إن ثبتت التهمة،و لقد أعدم الكثيرون من أعداء الثورة فيما عرف ب"مذابح سبتمبر". ثالثاً : إنشاء"لجان للمراقبة العامة"لمنع المؤامرات و استئصال شأفتها أولا بأول،كذا نزع السلاح من النبلاء السابقين و القساوسة المناوئين للثورة. رابعاً : تقييد حرية الصحافة، وتوقيع عقوبة الإعدام علي كل من يدان بتهمة نشر أقوال تنطوي علي التحريض لإعادة الملكية والافتئات علي سيادة الشعب العليا. أما عن الإعداد للحرب فقد اتخذت اللجنة العليا عدة إجراءات مهمة أهمها: أولاً: إعلان التعبئة العامة،بأن يذهب الشبان إلي ساحات القتال، و أن يحمل الأزواج السلاح و ينقلوا الإمدادات،و أن تصنع الزوجات الخيام و الأقمشة ويخدمن في المستشفيات،و أن يقوم الأطفال بجمع الثياب البالية لعمل مشاقة منها، و أن يذهب العجائز إلي الميادين العامة ليشجعوا المحاربين ويشعلوا نار الكراهية ضد أعداء الثورة.و تشكلت فرق خاصة للحرس الوطني الذي كان من قبل مقصوراً علي الطبقة الوسطي،فتحت أبوابها لجميع المواطنين بعد تثويره. ثانياً : علاج الأزمات الحالية بفرض اكتتابات إجبارية علي الأغنياء بتقديم قروض داخلية تستعين بها الدولة علي تيسير السلاح. ثالثاُ: تأليف حرس خاص في كل مدينة يختار أفراده من بين أقل الناس ثراء مهمته توفير الخبز والمؤن الضرورية و وضعت"التسعيرة"إجبارية للغلال والمواد التموينية الأخري،واعتبر مشبوها كل تاجر يترك تجارته، ولا يلبث أن يتعرض لحكم الإعدام إذا عمد إلي تخزين المواد الغذائية. إنقاذ الثورة بفضل هذه الإجراءات و غيرها نجحت حكومة اليعاقبة في قمع الحركات المضادة في الداخل واعداء فرنسا في الخارج،و لم تلبث هزائم الجيوش الفرنسية علي الحدود أن تحولت إلي انتصارات أسفرت عن انفراط الائتلاف الأوروبي الأول،و إنقاذ الثورة من خطر أعدائها،و استمرارها قدماً في تحقيق أهدافها". فهل تعي الحكومة الحالية هذا الدرس ، وتتخلي عن مهاتراتها بصدد"المصالحة"و"المهادنة"وتجعل من الدم قرباناً لنجاح الثورة المصرية؟ أن تستمر في سياستها هذه لتقدم أفرادها قرباناً لفشلها؟ تلك صرخة مؤرخ و مناضل أرخ لكل الثورات في العالم في أربعة كتب،فضلاً عن تجارب نضالية أهلته للوقوف علي أسباب نجاح الثورات وعوامل إخفاقها.فالثوري الحقيقي يعرف خصومه و يبادر بمواجهتم بالفعل الفوري المباشر كسبا للوقت لا لشيء إلا لأن "الوقت سيف مالم تقطعه قطعك"، وصدق المثل الإنجليزي القائل : "A stitch in time saved nine" و معناه "إن حياكة غرزة في وقتها تغنيك عن حياكة تسع غرز بعد فوات الأوان".