يحاول الدكتور قدري حفني في دراسته الضافية «الاتصال والعولمة» تقصي جذور وحاجات الاتصال بين أفراد المجتمعات وعلاقة ذلك بالعولمة وما تفرضه من أشكال اتصال جديدة، وفي هذا الجزء من الدراسة يتتبع طرق الاتصال البدائية وأنواعها وكيف نشأت الحاجة لها، كما يفسر أسباب وضرورات ظهور طرق الاتصال الحديثة، ويشير قدري قبل هذا وذاك إلي أهمية الاتصال بين المجتمعات وأفرادها وضرورات ذلك النفسية. الاتصال حاجة إنسانية قبل أن يكون ضرورة اجتماعية. وتؤكد تجارب علم النفس، فضلا عن الخبرة الإنسانية العامة، أن إغلاق منافذ الاتصال يؤدي بالفرد إلي معاناة نفسية - بل بدنية - قاسية - وتؤدي تلك الحالة إذا ما استمرت إلي انهيار نفسي كامل يتحول معه الإنسان إلي كائن رخو فاقد تماما لجهاز مناعته النفسية إذا ما صح ذلك التعبير. ولو تركنا علماء النفس وتجاربهم جانبا، ونظرنا في أنفسنا، وإلي البشر من حولنا، لوجدنا الصورة أكثر وضوحا. فالمرء مهما كانت انطوائيته، ومهما كان عزوفه عن البشر، لا بد أن يضيق بوحدته بعد فترة تطول أو تقصر. ولا بد أن يبحث لنفسه عن «آخر» يأتنس به، ويتفاعل معه. ولا بأس بعد ذلك من عودته إلي قوقعته من جديد. وحتي في بعض حالات المرض العقلي المتطرفة، وحين يتعذر علي «المريض» ممارسة الاتصال المتبادل بالآخرين، فإنه يصطنع - أو يتوهم- لنفسه آخرين يقيم معهم من العلاقات الاتصالية ما يبدو لنا غريبا وشاذا. خلاصة القول إذن أن الحاجة إلي الاتصال حاجة إنسانية، شأنها شأن حاجة الإنسان للطعام والشراب والنوم وما إلي ذلك من حاجات أساسية. ولعلنا لا نجاوز الحقيقة إذن إذا ما سلمنا بأن الإنسان يمارس الاتصال منذ بداية الوجود البشري. ولعلنا لا نجاوز الحقيقة كذلك إذا ما سلمنا أيضا بأن ممارسة الاتصال باعتباره حاجة إنسانية كان سابقا علي توصل الإنسان لأبجديات اللغة كما نعرفها اليوم، ولكن تري كيف كان ذلك؟ لقد كان أول أشكال الاتصال البدائي يتمثل في استخدام الإنسان التعبيرات الجسمية كوسيلة لنقل انفعالاته وأحاسيسه إلي الآخر. وقد شملت تلك التعبيرات الجسيمة أجزاء الجسد جميعا :العيون، الأنف، الشفتين، الذراعين، اليدين، الأصابع، الكتفين، حركة الجسد ككل... إلي آخره. ومازالت لغتنا اليومية المنطوقة بل والمكتوبة أيضا تحمل آثارا من تلك اللغة القديمة، لغة التعبيرات الجسمية. ويكفي أن نتأمل تعبيرات مثل : " أوليته ظهري" - "فتح له ذراعيه" - "شمخ بأنفه" - "ربت عليه" - "قلب شفتيه" - "تمايل طربا" - "هز كتفيه".. إلي آخره. ولو تركنا جانبا لغتنا المنطوقة والمكتوبة لوجدنا دليلا آخر علي عمق جذور تلك اللغة القديمة إذا ما تأملنا أساليب الاتصال لدي الطفل قبل اكتسابه اللغة. إن الأطفال يشبعون حاجاتهم الاتصالية منذ البداية بذلك الاستخدام الماهر التلقائي لتعبيرات الجسد. والطريف أن الكبار - وخاصة الأمهات - يستعيدون فورا قدرتهم المرهفة القديمة علي " قراءة" تلك التعبيرات الجسمية الصادرة عن أطفالهم، وترجمتها، والرد عليها. الأم " تقرأ" نظرات طفلها، وهمهماته، وحركات رأسه. بل إنها كثيرا ما تستطيع أن تميز بدقة بالغة بين بكاء العتاب، وبكاء الخوف، وبكاء الجوع وبكاء الرغبة في النوم، أو الحاجة إلي تغيير الملابس، أو الرغبة في أن تحمله علي ذراعيها... إلي آخره. ولكن ما إن يبدأ الطفل في النمو واكتساب اللغة، حتي يعزف شيئا فشيئا عن الاعتماد علي تلك اللغة القديمة. وعادة ما يشجعه الكبار علي ذلك سواء بالتعبير له عن فرحتهم به وهو ينطق كلماته الأولي، أو بتوجيهه مباشرة إلي ضرورة استخدام اللغة المنطوقة وإلا كفوا عن استقبال رسائله : "قل ما تريد... تكلم... عبر بالكلمات... كف عن استخدام الإشارات ". ولو حاولنا أن نصنف تلك اللغة القديمة وفقا للتصنيفات التي تعرفها علوم الاتصال الحديثة، لوجدنا أنها نوع من أنواع الاتصال الشخصي، أو بعبارة أخري أكثر أصالة "الاتصال وجها لوجه ". ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلي تعبيرنا العامي الدارج "عيني في عينك " بمعني واجهني مباشرة لأعرف مدي صدق ما تنطق به. خلاصة القول إذن أن الاتصال الشخصي، أو الاتصال وجها لوجه، هو أقدم أنواع الاتصال من حيث السياق التاريخي سواء علي مستوي المجتمع، أو علي مستوي الفرد. ولكن، تري ما الذي حتم ظهور نمط آخر من أنماط الاتصال هو " الاتصال الجماهيري "، بل سيادته شيئا فشيئا ؟ هل يرجع ذلك إلي مجرد حداثته أو كفاءته؟ قد يكون كل ذلك صحيحا، ولكنه غير كاف وحده للتفسير. لابد من حتم اجتماعي جعل من انتشار الاتصال الجماهيري ضرورة اجتماعية. لماذا نشأ الاتصال الجماهيري؟ إن الضرورة الاجتماعية التي حتمت ظهور وانتشار الاتصال الجماهيري تتمثل - فيما نري - في ثلاثة عوامل متكاملة: زيادة أعداد البشر، واتساع المعمورة، وتبلور ظاهرة السلطة المركزية . 1- زيادة أعداد البشر إن فعالية الاتصال الشخصي - بحكم طبيعته - ترتبط بصغر حجم الجماعة التي يتم في إطارها الاتصال، وإذا ما تجاوز حجم جماعة الاتصال حدا معينا تحول نمط الاتصال إلي الشكل الأقرب للجماهيري، أو تفتتت الجماعة إلي جماعات اتصالية أصغر تمارس الاتصال الشخصي، ولسنا بحاجة للإشارة التفصيلية إلي تجارب علم النفس الاجتماعي في هذا الصدد، بل يكفي أن نشير إلي ما نشاهده في حياتنا اليومية مما يؤكد ذلك. لو تصورنا مجموعة من الأفراد يتوافدون علي مكان ما لحضور حفل أو اجتماع معين، أو لأي مناسبة اجتماعية أخري. سوف نلاحظ أن أوائل الحاضرين عادة ما يتحادثون "معا" في موضوع أو آخر. ومع تزايد عدد المتوافدين يتسع نطاق "الحديث معا". بعبارة أخري يتسع نطاق ممارسة الاتصال الشخصي. فإذا تجاوز حجم الجماعة حداً معينا لاحظنا أحد أمرين: قد تنقسم الجماعة إلي مجموعات أصغر أو " شلل" يتحادث أفراد كل شلة مع بعضهم البعض في موضوع أو آخر. أما إذا كان ثمة موضوع مهم يجذب اهتمام أفراد الجماعة جميعا -وقد يكون هذا الموضوع هو السبب المعلن لاجتماعهم- فإنهم عند بلوغ حجم الجماعة حدا معينا يكفون عن "الحديث معا"، ويبدأون في الانتظام وفقا لقواعد اتصالية معينة: يستمعون لمحاضرة مثلا، أو لموسيقي، أو لغير ذلك. وتشير نتائج بحوث علم النفس الاجتماعي إلي أنه يصعب جداً إقامة تفاعل شخصي مباشر بين أفراد جماعة يزيد عدد أفرادها علي خمسة عشر فردا، وكلما قل العدد علي ذلك كان التفاعل أفضل. وإذا ما صدق ذلك علي جماعة لا يتجاوز عدد أفرادها العشرين، فكيف بنا إذا ما كنا بصدد الآلاف بل الملايين من البشر؟ كان لابد إذن لكي يتحقق اتصال فعال بين هذه الجماهير الغفيرة، دون أن تتفتت إلي جماعات صغري معزولة عن بعضها البعض، كان لابد من ظهور نمط جديد من أنماط الاتصال إلي جانب النمط الأصيل للاتصال الشخصي. 2- أتساع المعمورة إن أعداد البشر لم تتزايد فحسب، ولكن المساحة المعمورة المأهولة بهم قد ترامت أطرافها وتباعدت. ولم يعد ممكنا والأمر كذلك أن تفي الأنماط التقليدية الأصيلة للاتصال وعلي رأسها الاتصال الشخصي بإشباع الحاجة الاتصالية للتفاعل بين قاطني هذه المساحات المترامية الأطراف. إن الاتصال الشخصي بحكم طبيعته يقتضي أن يتواجد أفراد جماعة الاتصال معا بحيث يتبادلون التأثير الاتصالي، ومع التقدم التكنولوجي لوسائل الاتصال (البريد - الهاتف - الراديو - التليفزيون - الفاكس - التلكس.. إلي آخره) أصبح الاتصال غير المباشر أكثر إغراء حتي لو توافر القرب المكاني نسبيا. فالأيسر مثلا أن أتصل بجاري تليفونيا بدلا من زيارته وما قد تتكلفه تلك الزيارة من جهد ووقت لكلينا. والأيسر بطبيعة الحال أن أبعث بخطاب إلي صديق أو قريب يقيم في الطرف الآخر من نفس المدينة بدلا من أن أتكلف مشقة الانتقال إليه. خلاصة القول إن التباعد المكاني، بالإضافة إلي التقدم التكنولوجي قد ساهما - فضلا عن التزايد السكاني - في تشكيل الضرورة الاجتماعية التي حتمت ظهور وانتشار الاتصال الجماهيري.