لا تزال الإدارة الأمريكية تراهن علي »الاخوان المسلمين« لتعزيز المصالح الأمريكية داخل مصر وخارجها، وهذا الرهان يتجاوز مصر وتونس ليطاول تشكيل تحالف إقليمي جديد بالتحالف مع قطر وتركيا أجهزت زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلي مصر علي أي أمل له في الانضمام إلي السحرة الأمريكيين الكبار، الذين يبهرون المشاهدين بالعجائب والخوارق التي يجترحونها علي شاشات التلفزة وخشبات المسرح. يظهر أداء جون كيري الباهت أنه لا يمكن مقارنته بالساحر الأمريكي المشهور ديفيد بلين، الذي يستطيع البقاء لأيام تحت سطح الماء دون جهاز تنفس اصطناعي، ولا يمكن بأي شكل وضع مهارات كيري المتواضعة في مواجهة مع دافيد كوبرفيلد الطائر في الهواء، أو مع كريس أنغل الجسور الذي يتحدي كسارة الأحجار، أو حتي مع لانس بورتين الذي يجعل البط يرقص علي أنغام الموسيقي في مسرح مظلم. جون كيري لا ينتمي إلي هؤلاء السحرة الكبار بأي حال، وإنما أثبتت زيارته الأخيرة إلي مصر أنه أشبه ما يكون بساحر مغمور من ذلك النوع التعيس الذي تشاهده في حفلات التخرج من المدارس الثانوية. مثلهم تماماً يقف جون كيري فارداً قوامه النحيل مبتسماً ومظهراً أسنانه البيضاء المصفوفة بعناية، ليستخرج بعد كثير من الجهد والعناء أرنباً أبيضَ مسكيناً من «صندوق أسود فارغ». وفي النهاية، مثله مثل أي ساحر متواضع الموهبة وقليل الحيلة، أحني قامته تكراراً مستجدياً تصفيقاً لم يأت. يزعم هذا المقال أن جون كيري في زيارته إلي مصر فشل في بيع الوهم للجمهور المصري، إلي الحد الذي لم يفلح فيه حتي في إخراج الأرنب من الصندوق، لأن ذلك الجمهور دخل العرض عارفاً بخفايا اللعبة، ومكتشفاً مسبقاً ألاعيب استخدام الخداع اللغوي وخفة اليد، ولكنه أدخل المصريين – من حيث لم يحتسب – في اختبار هام لم يتوخَّه. الأهداف الأمريكية من زيارة جون كيري لا تزال الإدارة الأمريكية تراهن علي »الإخوان المسلمين« لتعزيز المصالح الأمريكية داخل مصر وخارجها (راجع مقالنا: رهان أوباما علي الإخوان – »السفير« 10/12/2012). والرهان الأمريكي علي »الإخوان المسلمين« يتجاوز مصر وتونس، ليطاول تشكيل تحالف إقليمي جديد بالتحالف مع قطر وتركيا. بدورها أظهرت حكومة مرسي فائدة كبيرة حتي الآن في الملفات الإقليمية: تثبيت التهدئة في غزة، تبني الموقف الأمريكي من الحراك الشعبي في سوريا، والانخراط في مثلث مع كل من قطر وتركيا. ومع تلك الفوائد التي تسعي الإدارة الأمريكية لإدامتها، يمثل الفشل الواضح للجماعة في الحكم خلال الشهور الثمانية الماضية ناقوس خطر للإدارة الأمريكية. بذلت الإدارة الأمريكية كل ما أوتيت من نفوذ ووسائل لتوجيه الأحداث علي الساحة المصرية في الطريق الذي تريده منذ تنحي الرئيس المخلوع مبارك في 11 شباط 2011 وحتي الآن، فضمنت عبر وسائل وأدوات وشخصيات متنوعة ألا تتطور الانتفاضة الشعبية إلي ثورة تسقط النظام السابق بالكامل وتدشن عهداً جديداً ثورياً يفتح الأبواب أمام عودة مصر إلي المنطقة كلاعب إقليمي كبير وكنموذج إلهام يحتذي، فرعت وهندست مرحلة انتقالية فاشلة شملت عملية انتخابات رئاسية قادت بدورها إلي جولة إعادة بين مرشح الفلول ومرشح »الإخوان المسلمين«، فضمنت مصالحها أياً كانت النتيجة. ولكن الإدارة الأمريكية تعرف أن انهيار الدولة المصرية سيكون كارثة أمنية وجيو – سياسية علي مصالحها في المنطقة، حيث يتراجع التصنيف الائتماني الدولي بمعدلات قياسية ومعه الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية، ويسير الاقتصاد بخطي ثابتة وسريعة نحو الهاوية. تدرك الإدارة الأمريكية جيداً أن العصيان المدني الذي دخلت فيه بورسعيد ومدن القناة يقوّض قدرة النظام علي الحفاظ علي وحدة الأراضي المصرية، وهي الوظيفة الأساسية لأي دولة. ولا يغيب عن فطنة الإدارة الأمريكية أن الانقلاب علي الدستور والديموقراطية من طرف مؤسسة الرئاسة (إعلان دستوري يمنحه صلاحيات غير قابلة للنقض وهيمنة علي القضاء والتشريع وعزل النائب العام وتعيين آخر جديد علي قياس وقيافة جماعته) يضعف الشرعيتين الشعبية والديموقراطية لمرسي ويجعلها موضع تساؤل كبير. الساحر الأمريكي يفشل في العرض حضر الساحر المغمور كيري إلي القاهرة وفي جعبته ما يظن أنها وسائل إبهار للأطراف المصرية الفاعلة، والغرض حماية المصالح الأمريكية وفق رهانات أوباما، التي يتقدمها إقالة حكومة »الإخوان المسلمين« الحالية من عثراتها السياسية والاقتصادية مع استحصال المزيد من الضمانات الإقليمية فوق الدفعات التي قدمها الدكتور مرسي سلفاً. وفق ذلك المقتضي استحصل كيري من الإدارة المصرية علي ضمانات جديدة تتعلق باستمرار هدنة الفرع الفلسطيني لجماعة »الإخوان المسلمين« في غزة »حماس« مع إسرائيل أثناء زيارة أوباما المرتقبة لإسرائيل في شهر نيسان المقبل، وانتزع تنفيذ الحكومة المصرية لشروط صندوق النقد الدولي كي يصار إلي ضخ سريع للقرض الذي يناهز خمسة مليارات دولار. حاول جون كيري بيع فن الوهم الذي يجيده السحرة للمعارضة، عبر تغيير صورة المشهد المصري بمبادرة شكلية تتمثل في تشكيل حكومة وفاق وطني تضم الطرف المهيمن (»الإخوان المسلمين«) مع تطعيمها برموز معارضة من جبهة الإنقاذ. تروم الإدارة الأمريكية بمناورتها التي سبق أن توقعناها هنا قبل شهر (»الإخوان المسلمون« ومناوراتهم السياسية الجديدة – »السفير« 28/1/2013) تسجيل هدفين في وقت واحد: تحميل مسئولية السياسات الاقتصادية التقشفية القادمة حكماً مثل رفع الدعم عن المحروقات والمواد الغذائية الأساسية إلي كامل الطيف السياسي المصري وليس جماعة «الإخوان المسلمين» فقط، باعتبار أن المعارضة شريكة في الحكومة وبالتالي في المسؤولية. ويتمثل الهدف الثاني في إجراء الانتخابات البرلمانية دون مقاطعة من المعارضة لإسدال ستار ديموقراطي علي استيلاء الجماعة علي مقدرات الدولة والنظام السياسي. لذلك الغرض أخرج الساحر كيري من جعبته مصطلح «التحول الديموقراطي» لينوب عن الديموقراطية في خطاباته المصرية، محاولاً تمويه صورة الواقع القاتم في مصر والتغطية علي حقيقة أن واشنطن تستمر في التحالف مع أنظمة شمولية وغير ديموقراطية في مصر مثلما فعلت في السنوات الثلاثين السابقة علي الأقل. يعلم جون كيري جيداً أن العقبة لن تكون في الإدارة المصرية الحالية، وإنما في «جبهة الإنقاذ» المعارضة التي رفض رمزاها الأهم حمدين صباحي ومحمد البرادعي مجرد اللقاء معه. ولذلك فقد ادّعي الساحر جون كيري الغفلة عن غياب اشتراطات الديموقراطية عن المشهد المصري، وبدا مرتبكاً ومثيراً للشفقة حين استظهر بالصندوق (الانتخابي) محاولاً الإيهام بأنه يختزن الأرنب (العملية الديموقراطية). فات علي الساحر المغمور أن الصندوق لا يختزن الديموقراطية أو يختزلها، وإنما الصندوق هو نهاية عملية متكاملة تبدأ بسيادة القانون، مع بقاء الأجهزة التنفيذية للدولة علي مسافة واحدة من كل المرشحين ترسيخاً لمبدأ تكافؤ الفرص، في ظل دستور يتوافق عليه المواطنون. دستور لا يفرق حسب اللون أو الجنس أو المعتقد وليس الدستور الحالي بالطبع، دستور يضمن احترام حقوق الإنسان، التي تنتهك يوميا في التظاهرات والاحتجاجات وباغتيال الناشطين السياسيين من جيكا إلي الجندي، وهما غيض من فيض. لن تفيد الساحر المغمور حقيقة أن الدكتور مرسي منتخب عبر الصندوق فذلك نصف الحقيقة فقط، لأنه انتهك السلطة القضائية بعد انتخابه بشهور قليلة، وهي خدعة لن تنطلي علي المصريين مرة ثانية. باختصار سمع الساحر المغمور صفارات الاستهجان من الحضور، وإن نجا من رشق بالبيض علي العرض الساذج والسيئ والعديم الخيال. ربما عليه أن يطوّر من الأداء في المرحلة المقبلة، إذا أراد أن يبقي في هذه المهنة بالسنوات الأربع المقبلة. تناقض القيم والمصالح تنصّب إدارة أوباما نفسها راعية لحقوق الإنسان ووصية علي الحريات المدنية والفردية وقبلة الديموقراطية في العالم، ولكنها تتحالف مع جماعة شمولية تنتهك الحريات المدنية وتغتصب الديموقراطية في مصر وتتجاهل قيام النظام الجديد علي أسس غير ديموقراطية وغير تشاركية وتتعامي عن خلو النظام السياسي من التوازن بين السلطات، أو ما يحلو للأمريكيين وصفه checks and balances. وهنا تكرر الإدارة الأمريكية نهجها ذاته مع نظام مبارك الممتد لثلاثين عاما، في تناقض صارخ مع القيم المؤسسة للولايات المتحدةالأمريكية ذاتها. لا يبدو أن الإدارة الأمريكية تتعلم من ارتكابات سابقاتها، فالإدارات السابقة اقترفت الخطأ ذاته مع نظام مبارك فقط لأنه يلبي لها مصالحها الإقليمية (ضمان أمن إسرائيل، المشاركة في استمرار تدفق النفط، تمرير المصالح الأمريكية وتسويقها في المنطقة)، وتناست أن الداخل يحدد اتجاهات السياسة الإقليمية إلي حد كبير. لم تنطل ألاعيب الساحر المغمور جون كيري علي المصريين، ولكنها كشفت من حيث لم يحتسب أشياء أخري. اختبر المصريون ثورية الجماعة أثناء الانتفاضة الشعبية، حين شاهدوا الجماعة تتحاور مع عمر سليمان بعيداً عن المتظاهرين في التحرير، ووقت أن تيقنوا من رعاية الجماعة لترقيع الدستور 1971 في بداية المرحلة الانتقالية الفاشلة، ومنذ أن تثبتوا من تحالفها النفعي مع المجلس العسكري. ثم عاد المصريون وامتحنوا ديموقراطية الجماعة بعد أن انتخبوا مرسي في مواجهة مرشح الفلول، وما تلاه من ميل جارف للجماعة تجاه مغالبة الآخرين وإخراج قرارات صممت وهندست لتحجيم الزخم الديموقراطي الوليد في مصر. ثم اكتشف المصريون تقدمية الجماعة ذاتها بقراءة مواقفها حيال قضايا المرأة والأقليات وبمعاداتها السافرة للعدالة الاجتماعية ومقتضياتها، وهي الشعار المؤسس لانتفاضة «25 يناير» 2011 المجيدة. الآن وبمناسبة زيارة جون كيري ينتقل المصريون إلي مرحلة اختبار …. وطنية الجماعة! «نقلا عن سفير اللبنانية»