هل هي انتقال رياح الربيع العربي الي شرق أوربا وتحديدا بلغاريا القريبة منه جغرافيا، وهل وهل ،أسئلة مازالت تتردد في أوساط الشوارع البلغارية وميادينها ،لكن المؤكد أن شرق أوربا وبلغاريا في القلب منه لم يشهد مثيلا لانتفاضة أكثر من 35 مدينة منذ 8 فبراير الماضي في شوارعها وميادينها ،والتي مازالت مستمرة حتي كتابة هذه السطور ،وذلك منذ سقوط المعسكر الاشتراكي وحائط برلين والتحولات السياسية بنموذج الانفتاح الاقتصادي .فلقد بدأت الاحتجاجات ضد ارتفاع أسعار الكهرباء والتدفئة والتي وصلت فواتيرها الي أكثر من الضعف ،علي خلفية غياب رقابة حكومية وتواطؤ النخبة السياسية في الحكومات المتعافبة مع الشركات الاحتكارية الأجنبية لتوزيع الكهرباء ،وعلي خلفية فضائح بالأوساط الحكومية لفساد وعمولات ورشاوي طالت وزراء وكبار الموظفين الحكوميين . فقد عمت المظاهرات بمئات الآلاف بالشوارع والميادين البلغارية بدعوات يومية من شباب عاطل متعلم- لا يستطيع ايجاد فرصة عمل سوي بمقاهي وحانات الغرب الذي سرق أحلامه – علي شبكات التواصل الاجتماعي ،وشهدت تكسير عدادات الكهرباء وحرق لفواتير التدفئة ،بل بمهاجمة مقار شركاتها الاحتكارية وتحطيم واجهاتها واحراق سياراتها ،وكنتيجة طبيعية لاستمرار المظاهرات ليلا ،اشتعلت حدة المواجهة بين المتظاهرين وقوات الأمن ،مما أدي لمزيد من الاحتقان والاصابات والاعتقالات ،وهو ما أدي لرفع سقف مطالب الشارع يوما بعد يوم حتي بلغت ذروتها بمطلب تغيير النموذج السياسي القائم منذ 23 سنة بدايات الانفتاح ومحاكمة جميع المسئولين بالحكومات المتعاقبة في عمليات الخصخصة وبيع وحدات القطاع العام الي تصفية القطاع الزراعي وتفكيك وحداته التعاونية الاشتراكية . انتحار شابين واشتعال غضب الشارع كان انتحار شاب عاطل بمدينة بلوفديف حرقا علي طريقة بوعزيزي بتونس ،وأخر في الثلاثين من عمره بمدينة فراتسا له وقع الأثر في اشتعال حدة غصب الشباب بالميادين وبخاصة بمدن فارنا والعاصمة صوفيا ،وهو دفع بمطالب جديدة في ابراز جام الغضب علي النخبة السياسية وأحزابها القائمة ،عبر الدعوة لانتخاب جمعية تأسيسية جديدة لصياغة دستور جديد للبلاد يعتمد في مكوناته علي منظمات المجتمع المدني ،مع تغيير كامل للنظام الانتخابي الساري وهو ما ينصب علي التنصل من جميع الأحزاب القائمة ،التي أعلنت جميعها بيسارها ويمينها رفض ذلك المطلب نظرا لاجراءاته الطويلة وغير المتاحة لعنصر الوقت ، الا أنها أقرت بضرورة اقالة حكومة الحزب الحاكم اليميني “حزب مواطنين من أجل التنمية الأوربية وتكليف رئيس البلاد وفقا للقواعد الدستورية بتشكيل حكومة طوارئ واجراء انتحابات مبكرة بحد أقصي 28 ابريل القادم بدلا من موعدها العادي في 7 يوليو .الا أن ذلك لم يشف غليل الشارع الملتهب من ارتفاع الأسعار وزيادة البطالة حتي 18 % وخواء الاحتياطي بالخزينة العامة وافلاس أكثر من 130 ألف شركة بقطاعات مختلفة ،وتعالت أصوات الشارع في مطالبة رئيس الجمهورية بحوار وطني عاجل مع قيادات الشباب بالميادين ،علي غرار الحوار الوطني العام الذي أجري في نوفمبر عام 1989 وتمخض عنه النموذج السياسي والاقتصادي القائم . سقوط الحكومة وفراغ سياسي .. في ظل استمرار المظاهرات واتساع حركتها ،سارع رئيس الجمهورية- المنتمي للحزب الحاكم – باعلان انحيازه للشارع وعدالة مطالبة ومطالبا حكومة حزبه بمحاسبة المسئولين عن ارتفاع الأسعارمع اجراء جرد وتفتيش شامل علي حسابات الشركات الأجنبية الاحتكارية ،بعكس الحكومة التي تجاهلت مطالب الشارع علي مدي أسبوع كامل ،سوي في الثلاثاء الماضي عبر مؤتمر صحفي لرئيس الوزراء بويكو بوريسوف بمشاركة من بعض المدعين لقيادات الميادين – التي أعلنت بأنهم لا يتحدثون باسمهم – في الاعلان عن امكانية تخفيض الأسعار بنسبة 8 % وسحب ترخيص شركة “تشيز ” التشيكية ،مع رفضه التام لطرح عملية تأميم جميع الشركات ،وهو ما استدعي حالة من التأهب في جمهورية التشيك مقر الشركة الأم وابلاغ المفوضية الأوربية .. ولم يقف الأمر عند ذلك بل في مفاجأة قدم رئيس الوزراء استقالة حكومته في جلسة البرلمان يوم الخميس الماضي والتي كانت مخصصة لاعفاء وزير المالية والتصويت علي بديل له ،مع التأكيد علي أن حزبه لن يقوم بتشكيل حكومة أخري للأغلبية البرلمانية ،بل الدخول في انتخابات مبكرة ،وكانت المفاجأة الأخري من العيار الثقيل التي فجرها رئيس الحكومة اتهامه لزعيم حزب حركة الحقوق والحريات – الممثل للأقلية التركية بكتلته البرلمانية في الترتيب الثالث – أحمد دوجان محاولة لاغتياله عام 2009 علي أيدي عناصر الجريمة المنظمة ،والتي تلقته المخابرات البلغارية وفق زعم رئيس الوزراء من جهاز مخابراتي لدولة صديقة، أوعزه البعض لجهاز المخابرات الأمريكية ،وتناثرت من ثم علي صفحات الجرائد والقنوات التليفزيونية علاقة رئيس الوزراء بعالم الجريمة المنظمة ! محاولات للخروج من الأزمة تعكف رئاسة الجمهورية عبر حوارات مكوكية مع قيادات الأحزاب البرلمانية الممثلة لوضع تصور شامل للخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية بل والمؤسساتية ،وبهدف احتواء الشارع الغاضب ومظاهراته المتواصلة ،الا أن الكتل البرلمانية أجمعت علي رفض الاشتراك في تشكيل حكومة جديدة ،والاصرار علي اجراء انتخابات برلمانية مبكرة وتحمل الرئيس مهمة تشكيل حكومة مؤقتة تجري هذه الانتخابات مع استدعاء رقابة خارجية عليها ،وحيث يسعي الرئيس بلافنلييف الي اشراك قيادات الميادين وحركة الشارع فيما أسماه بمجلس اجتماعي تابع للرئاسة يكون بمثابة الرقيب علي نشاط المؤسسات والحكومة الجديدة المؤقتة التي سيتم الاعلان عنها أواخر الأسبوع القادم .لكن هل ذلك سيرضي الميادين وحركة الشباب الغاضب والعاطل ،وهل سيؤدي ذلك في مجمله الي اجراءات عاجلة لوقف التدهور المعيشي الحاد ووقف التصاعد المخيف للأسعار ؟؟!!