فمهما كانت الجبال شامخة ستظل دوما تنحني أمام رجال أكثر منها شموخا وصلابة، وأبقي منها ذكرا وسيرة ومسيرة وهكذا ستظل سيرة الأخ والصديق د. علي النويجي دوما.. راسخة وشامخة وقادرة علي الإلهام. لم أزل أذكر أول لقاء. كنا في شتاء عام 1965. وكنت منهمكا في كتابه «الأساس الاجتماعي للثورة العرابية» وبالمصادفة كنت قد توقفت أمام عبارة جميلة لويلفريد بلنت في كتابه «التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر» ولم يكن بلنت شاعرا بل كانت كتابته مرصوصة باتقان جارف من العواطف.. لكنه وعندما وصف عرابي قال: إن عرابي ليس مجرد زعيم الفلاحين، لكنه قطعة منهم، يخيل إليك بقامته المهيبة وبشرته السمراء أنه مصنوع من طمي النيل المصري الذي لا مثيل له في أي نهر آخر». وعندما دخل د. علي النويجي إلي بيتي صحبه د. فتحي خليل تسمرت في مكاني متصورا أنه بالبالطو الثقيل الأسود والقامة الشامخة والسمرة الحانية نسخة حديثه من أحمد عرابي. قطعة من طمي النيل المصري تجسدت رجلا.. أمام عيناني. وبدأ النقاش.. هو ومجموعته يتعرضون لضغوط ومطاردات من جانب وزير الداخلية ويطلبون تدخل الأستاذ خالد محيي الدين لدي الرئيس. وعندما تحدث علي النويجي عن رؤيته أدركت السبب. فعلي النويجي كان عاشقا للأمة المصرية. ولا يرضي بها بديلا، يتحدث عن الأمة المصرية تاريخا وعمقا وحضارة ومعاناة وكأنه يعتصر بعضا من قلبه وهو لا يرضي بما فعله عبد الناصر عندما كتم أنفاس اسم مصر، وسعيا وراء زعامة لم تلبث أن تبددت منع ترديد كلمة مصر .. وحلت محلها الجمهورية العربية المتحدة. والإقليم الجنوبي وقبلها تغير العلم والنشيد الوطني، وانتهت الوحدة المصرية السورية بشكل مأساوي وبقي اسم مصر مستبعدا. ويمضي علي النويجي تصوره أن كتابين للدكتور الغتيت ومحمد صبيح منعا من الصدور لأنهما حملا عنوان «تاريخ مصر» وتغير العنوانين «تاريخ نضال القومية العربية» وما أشبه ذلك، ادركت الجرح وحملته إلي الاستاذ خالد وابتسم قائلا صعب جدا إقناع عبد الناصر. وظلت الصلة حتي كانت اوائل نفحات منبر اليسار وأتي علي النويجي ورجاله وهم مدرسة تتمدد أذرعها من دسوق إلي كل كفر الشيخ إلي الإسكندرية والقاهرة وغيرها. وكانوا الأكثر نشاطا وحيوية والتزاما. وتمضي مسيرة العشق المصري بعلي النويجي فتتجلي في صورة عشق تجمعي ينهض فكرا مصريا ثوريا يمسك بالقضايا الحقيقية ويتمسك بها، ففيم كنا نقسم المسئوليات الأساسية إلي عموميات تستدرج أقوالا عامة كان هو يمتلك رؤية أخري.. ومسئوليات أخري.. زراعة – ري- صناعة- إلخ. ويمضي د. علي النويجي متحديا بفكره وآرائه كل الثابت والمألوف في النسق التنظيمي التقليدي ويفلت دوما من أي نزعة في تقديره وتقدير دوره وحتي عندما كان ينتخب لرئاسة المؤتمر يتقبل التكريم ممانعا فإذ نضغط يتقبل لوهلة ثم يتسلل من المنصة التي يتزاحم عليها البعض ليجلس في الصفوف الأخيرة. وفيم أنا منهمك في كتابة «مناضلون يساريون» حاولت جاهداً، ألححت فرفض ضاحكا وكررت وكرر الضحك الرافض. وطلبت إلي العزيز محمد بشت أن يمدني بمعلومات شخصية عنه وألححت ألا يبلغ الدكتور لأنه سيرفض. وعاندني محمد بشت كما عاندني العزيز الجميل علي النويجي. وما أدراك بعناد علي النويجي عندما يري أن أي مديح له، هو إهانة لكبريائه وتعففه وأخلاصه الذي يريد له ألا يخدش بمديح أو إطراء. أري العنقاء تكبر أن تصادا فعاند ما استطعت له عنادا ويرحل «عنقاء» اليسار المصري لكنه لا يبتعد كثيرا فروحه وفكره وتلاميذه معنا.. دوما.