كانت بدايات نشوء الطبقة الوسطي السورية في مدينة حلب، واستطراداً تجلت بدايات النهضة والحداثة فيها منذ نهاية القرن التاسع عشر، سواء في الجوانب السياسية أم الثقافية أم الاقتصادية أم غيرها، وذلك لأسباب موضوعية مع بدء إقامة صناعات متطورة، والاستفادة من الوجود الأوروبي في ذلك الوقت. (وجود سوق الأناضول تحت تصرفها) مما أدي لتطور صناعتها وتجارتها وازدهار اقتصادها، وأسباب ذاتية لأن نسبة كبيرة من سكانها مسيحيون استفادوا من قوانين الإصلاح العثماني (خط شريف كولخانة، وخط شريف همايون)، وكانوا وكلاء للشركات الأجنبية ثم وارثين لها، وسبقوا غيرهم في التعليم والتواصل مع الأوروبيين، وفي الخلاصة أعطت هذه الأسباب والشروط الموضوعية والذاتية مدينة حلب شرف السباق في قيام طبقة وسطي، وصناعة وطنية، وتوسيع علاقاتها الاقتصادية الخارجية، سواء بسبب الاستيراد أم التصدير. وكان هذا في العقود الأخيرة للدولة العثمانية. بعد مجيء الانتداب الفرنسي، وانكفاء السلطنة العثمانية وتحولها إلي الجمهورية التركية، لم يعد لحلب ولا لسورية علاقة جدية بالأناضول، ووقعت حلب في أزمة اقتصادية بعد فقدانها سوقها الرئيسية في الأناضول، فتوجهت إلي العراق وخاصة إلي شماله، وجعلت منه سوقاً بديلة عن الأناضول، وصار توجه حلب السياسي عامة نحو إقامة علاقات متينة مع العراق، وأخذت أحزابها السياسية وعلي رأسها حزب الشعب تنادي بالوحدة مع العراق، وكلما فاز حزب الشعب في الانتخابات تتحسن العلاقات مع العراق، بل ترتفع الشعارات المطالبة بالوحدة. بعد أن ساءت العلاقات السورية العراقية في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، لم يعد لحلب أسواقاً تصرف عن طريقها منتجاتها، فوقعت في أزمة اقتصادية كبيرة واستمرت هذه الأزمة في الواقع منذ إعلان استقلال سوريا حتي الآن، ولم يوجد بديل جدي لسوقي للأناضول والعراق يساعد في ازدهار الصناعة الحلبية. لحلب كيان خاص مهم سواء في نمط أبنيتها وبيوتها القديمة وخاناتها وشوارعها وتقاليدها وأنماط حياة مجتمعها، وقبل ذلك وبعده تنوعها الثقافي والإثني والديني حيث يعيش مع العرب فيها الأكراد والأرمن والتركمان وغيرهم كما يتعايش المسيحيون والمسلمون. وقد حافظت حلب، رغم هذا التنوع الإثني والديني، علي تعايش بين سكانها لا مثيل له، فلم تشهد في تاريخها أية خلافات بين فئتين من سكانها. بعد قيام الثورة السورية في العام الماضي، لم تستجب حلب في الأشهر الأولي لنداءات الثورة، ولاقت هي ودمشق انتقاداً لموقفها من فئات الشعب السوري كلها، وحار المحللون في تلمس أسباب هذا الموقف، ولعل أكثر التفسيرات قرباً للواقع كان أن حلب كانت قد استجابت لانتفاضة حماة 1982 علي أمل أن تشمل الثورة بقية المحافظات لكنها بقيت محصورة تقريباً في حماة وحلب، ودفع أهل حلب وادلب ثمناً غالياً، وخافوا أن تكون الثورة الحالية مثل ثورة 1982، وعلي أية حال فقد السوريون الأمل في أن تشاركهم حلب ثورتهم. انتفضت حلب قبل بضعة أشهر، وأدرك النظام خطورة هذه الانتفاضة، خاصة وأنه كان يراهن علي هدوء حلب ودمشق، ولذلك كان رده عنيفاً عليها، فاستخدم الأسلحة الثقيلة والطيران لمواجهة الانتفاضة. والذي حصل أن السلطة السورية دمرت حلب، فقضت علي معاملها الصناعية ومنشآتها وبيوتها الجميلة القديمة وتراثها العمراني، دون أن تقضي علي المعارضة المسلحة فيها. فتحولت حلب إلي ركام، وتم القضاء علي آلاف السنوات من الحضارة العمرانية ونمط الحياة الحلبية الخاص والتقاليد المميزة، بل علي آخر آثار طريق الحرير، بعد أن قُصف خان الحرير في حلب. لقد أصبح ريف حلب وريف ادلب المجاور تحت سيطرة الثوار، وفقد النظام أي سلطة عليهما بما في ذلك معابر الحدود مع تركيا، وهي جزء من سيادة الدولة، ولم تستطع السلطة السورية أن تستعيد وجودها في هذه المناطق رغم التصريحات النارية التي أطلقها القادة السياسيون السوريون في أن حلب ستتحرر من المسلحين خلال عشرة أيام، وتكررت هذه العشرة أيام عشرات المرات وبقيت حلب بين كر وفر وتدمير متبادل ويبدو أنها ستبقي كذلك حتي تدمير آخر منزل فيها، مع الأسف.