الانفتاح علي الجنوب! لولا معرفتي الشخصية برئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي منذ ثمانينيات القرن الماضي عندما كان يدرس بجامعة دار مشتاد الألمانية.. لتصورت أن إثيوبيا تكن العداء لمصر!. يصاب المرء بالفزع.. وهو يتابع ما تنشره صحف الحكومة من افتتاحيات ومقالات وتحقيقات صحفية.. وظهور جماعة من كبار خبراء المياه.. وكبار علماء الري.. الذين انتشروا في الصحف انتشارا لم يسبق له مثيل. كما انتشروا في الفضائيات يتحدثون عن حقوقنا التاريخية في مياه النيل.. وعن القانون الدولي وأن المؤسسات الدولية تقف إلي جانبنا.. وأن مصر التي نجحت في استعادة طابا تحت قيادة الرئيس مبارك سوف تستعيد حقوقها في المياه عن طريق التحكيم الدولي (!!) وأن مصر سوف تجري اتصالاتها بالأصدقاء في أوروبا لوقف تمويل مشروعات المياه في دول المنبع (!!) السبع.. وفي إثيوبيا علي وجه التحديد.. التي حظيت بنصيب الأسد من النقد.. ولولا معرفتي الشخصية برئيس الوزراء ميليس زيناوي منذ ثمانينيات القرن الماضي.. عندما كان يدرس بجامعة دار مشتاد الألمانية.. لتصورت أن إثيوبيا.. تكن العداء لمصر.. وأن ثمة «تار بايت» بين الدولتين. وترتفع درجات الفزع عندما تقرأ أن حكامنا.. بصدد طلب وساطة البابا شنودة لحل نزاع المياه بين جنوبالوادي وشماله.. من باب خلط السياسة بالدين. ومعني الكلام أننا بصدد إدارة أزمات جنوبالوادي.. بنفس العقلية التي أدرنا بها سياستنا الخارجية طوال الثلاثين سنة.. وعلي وجه الخصوص إدارتنا لأزمة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية.. والنزاع في دارفور.. والحرب العراقية - الإيرانية.. وغزو العراق للكويت.. إلخ. وبنفس العقلية التي أدرنا بها سياستنا تجاه التعليم والصحة والمواصلات والصرف الصحي.. والمرور.. والعشوائيات وقضية «عزبة الهجانة» التي تعد نموذجا للفساد.. المسنود من السلطة السياسية.. إلخ. أي أننا سنحاول معالجة قضية الخلاف الطبيعي بيننا وبين الأخوة والأشقاء والشركاء في جنوبالوادي بعقلية الطبيب الذي يحتكر علاج المريض حتي يقضي علي حياته ويسير في جنازته مرفوع الرأس.. وحوله حملة الدفوف والمزاهر يرقصون ويهللون للجهود التي بذلها.. وأن العيب في الميت.. وليس في الطبيب الذي يقال له في قريتنا «الحكيم»!. ومن الطبيعي أن يخرج صبية الإعلام بالمقالات والافتتاحيات والبرامج الحوارية.. التي تلقي اللوم علي الأشقاء في الجنوب.. وتتهمهم بالتآمر علي مصر بتحريض من أمريكا وإسرائيل وليبيا.. إلخ.. وأن تخرج الأغاني والأناشيد التي تردد «المصريين أهمه في الدنيا أول أمة»! لتلقي المزيد من المواد المفجرة للاشتعال علي موقف يتسم بالحساسية الشديدة.. ويقتضي رقة التعامل. التفاهم مع الأصدقاء في الجنوب علي أساس الاتفاقات الموقعة.. علي غرار محاولتنا حل القضية الفلسطينية بالقرار رقم 242.. و338.. لا يصح ولا يليق.. وعيب!. واتهام إسرائيل وأمريكا.. أو حتي ليبيا.. بتحريض الدول السبع التي نشاركها في كل قطرة ماء.. هو دليل فشل لأن المفروض.. في ظل حكام يملكون الحد الأدني من الرؤية السياسية الفطرية التي تكون علاقات مصر بدول وادي النيل.. هي علاقات مصالح مشتركة.. ومشروعات مشتركة.. وأن نستورد من بلادهم احتياجاتنا من اللحوم والقمح.. بل قصب السكر.. وكل المنتجات الزراعية المستهلكة للمياه.. وأن تكون رحلات الخارج من أجل الداخل، هي رحلات إلي أفريقيا.. وأن نستقبل سفراء أفريقيا في القاهرة استقبال الزعماء وأصحاب المكانة الرفيعة.. وبقدر كبير من الاحترام. فمن المثير للدهشة حقا أن يشير الزميل محمد بركات في مقاله الافتتاحي.. المنشور بالصفحة الأولي بجريدة «الأخبار» يوم الأربعاء 19 مايو 2010، عند تغطيته لزيارة الرئيس مبارك لإيطاليا تحت عنوان: «القاهرة وروما.. تعاون استراتيجي» إلي سلسلة من التطلعات لعلاقات استراتيجية مع إيطاليا (!!) فيقول: المصالح المتبادلة.. والتعاون الثنائي وإقامة المشروعات المشتركة.. هي اللغة التي يتحدث بها العالم.. ويعرفها بوصفها اللغة المعتمدة علي المستوي الدولي في كل مكان وزمان.. بوصفها الروابط القوية والأسس الثابتة التي تقوم عليها العلاقات بين الدول والشعوب.. وهي الضمان الحقيقي والثابت لاستمرار هذه العلاقة وتحسنها باستمرار (!!). انتهي كلام محمد بركات.. في مقاله حول التعاون الاستراتيجي بين مصر وإيطاليا!. وهو كلام عجيب فعلا.. لأنه لا يمكن أن يربط مصر.. بأي من دول أوروبا.. ومن بينها إيطاليا.. تعاون استراتيجي بأي صورة من الصور.. إذ كيف تربط رجل الأعمال المصري الذي لا يستطيع الحصول علي تأشيرة «تشينجن» روابط استراتيجية مع مجموعة من الدول الصناعية تربطها عملة واحدة هي «اليورو» ولها برلمان واحد.. إلي جانب برلماناتها المحلية.. هي البرلمان الأوروبي؟. والمؤلم في الموضوع أن كبار حكامنا يرددون العديد من المصطلحات التي يبدو لي أنهم لا يفهمون معناها، وأنهم لا يعرفون معني كلمة «استراتيجية» علي سبيل المثال.. وهي كلمة ينطقون بها عند الحديث عن الانتخابات فيقولون إنها «انتخابات استراتيجية»!. أعود لمقال محمد بركات فأقول إن ما أشار إليه الزميل حول التعاون الاستراتيجي مع إيطاليا.. هو.. صورة بالكربون لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات مع الأشقاء في الدول السبع «الكبري» الواقعة في جنوبالوادي.. وقوله إن المصالح المتبادلة.. والتعاون الثنائي وإقامة المشروعات المشتركة.. هي اللغة التي يتحدث بها العالم.. ويعرفها بوصفها اللغة المعتمدة علي المستوي الدولي في كل مكان وزمان. .. هو قول ينطبع علي جنوبالوادي ولا يسري بأي حال علي أي من الدول الأوروبية.. التي لا يمكن أن يجري بيننا وبينها أي تعاون استراتيجي.. وكل ما يمكن لإيطاليا أو اليونان التعاون معنا ينحصر في قضية واحدة.. هي مكافحة الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط.. ومن مصر.. علي وجه التحديد. إيطاليا واليونان سوف يرحبان بالطبع بأي تعاون مع حكامنا لوقف موجات الهجرة غير الشرعية وتزويد حكامنا بالقوارب واللنشات.. وصواريخ التحذير.. لمراقبة الشواطئ المصرية.. علي غرار الدور المصري في مراقبة الأنفاق علي الحدود مع إسرائيل.. فإذا كان هذا هو الدور الاستراتيجي الذي يقصده حكامنا فنحن إذن أمام دور مصري.. لم تلعبه مصر في تاريخها كله وهو دور «حارس العقار. ونعود لموضوعنا.. فنري أنه من بين سيل المقالات والتحليلات والتحقيقات التي نشرتها الصحف لعلماء الري والمياه ومشروعات حوض النيل.. وهم بالمناسبة ليسوا طرفا في هذه القضية.. والقضية ليست قضية تخصصاتهم التي نكن لها كل الاحترام.. وكان يتعين علي الإعلام الذكي تحويلها للأرشيف.. وليس للمطبعة. المهم.. أنه من بين هذا السيل الجارف من التحليلات الساذجة.. خرج علينا وزير الري السابق أبوزيد بمقالات مطولة نشرتها صحيفة الأهرام كي تكشف للقارئ.. بما لا يدع أي مجال للالتباس.. أن حكامنا قد تركوا علاقات مصر بدول جنوبالوادي.. لوزارة الري (!!!). فيقول الوزير في اعترافاته.. إنه سافر.. وأنه التقي.. وأنه لمس حب الشعب الإثيوبي للشعب المصري وأن اللقاءات مع الزعماء كانت حميمية.. إلخ.. علما بأن قضية العلاقات مع دول وادي النيل.. ليست من اختصاص وزارة الري.. ولا وزير الري، ولا وزراء الري في الدول الصديقة. القضية هي قضية «رؤية سياسية».. لا تتغير من وزير لوزير.. ولا من حكومة لحكومة.. ولا من رئيس جمهورية.. لرئيس جمهورية آخر «في أمريكا». هي سياسة ثابتة بثبات الموقع وثبات المصالح، ونذكر في هذا الصدد.. سياسة الزعيم الألماني الراحل فيلي برانت والتي أطلق عليها «الانفتاح علي الشرق». كانت الحرب الباردة أيامها في أوج اشتعالها.. وأدرك أن هذه الحرب الباردة سوف تؤثر سلبيا، علي أي تقارب بين الدولتين الألمانيتين، التي تفصل بينهما قوات الدول العظمي.. فخرج بفكرة مد الجسور بين الدولتين.. وإجراء الحوارات بين قيادات الدولتين وتبادل المصالح البسيطة.. مثل تبادل التنمية في المحافل الدولية.. علي سبيل المثال. وطرح برانت الفكرة للنقاش داخل الأحزاب الأربعة الرئيسية في ألمانيا.. وجرت عليها بعض التعديلات.. ووافقت عليها كل الأحزاب وأصبحت سياسة «الانفتاح علي الشرق» هي السياسة المعتمدة والمتفق عليها بين كل الأحزاب. وعلي الرغم من أن سياسة «الانفتاح علي الشرق» كانت تلقي المعارضة من جانب بعض زعماء أوروبا.. لاسيما في فرنسا وبريطانيا.. فإنها كانت تخمد في كل مرة لسبب بسيط، هو أن السياسة الألمانية كانت تعتمد في جوهرها علي فكرة «المصالح أولا.. والصداقة ثانيا». وأستطيع أن أقول اليوم إنه لولا سياسة «الانفتاح علي الشرق» التي وضع أسسها فيلي برانت.. لما تحققت الوحدة الألمانية علي الإطلاق.. ولولا «الأوستبوليتيك» لما كانت الوحدة. لماذا؟ لأن سياسة الانفتاح علي الشرق.. ساهمت في إزالة أسباب الكراهية التي كانت تغذيها أمريكا والغرب من ناحية والاتحاد السوفيتي والشرق من ناحية.. كما ساهمت في تقريب المسافات بين الشعبين.. رغم الحواجز والأسوار. ولذلك نلاحظ أن الألمان لم يتخلوا عن فكرة «المجال الحيوي» تماما.. وإنما طبقوها بأساليب ووسائل وأدوات أخري.. لا تمت للعنف والحرب واستخدام السلاح بصلة. نعود لموضوعنا فنقول.. إن حكامنا لم يستوعبوا ضرورات وأحكام «الموقع الجغرافي» لمصر.. طوال الثلاثين سنة الماضية. ولم يخطر ببالهم أن مصر دولة أفريقية كبيرة.. والمفروض أن تكون الأخت.. والصديقة.. والمشاركة في قضايا كل دولة تطل علي النهر الخالد. لم يطل حكامنا علي أفريقيا طوال الربع قرن.. وتركزت رحلات الخارج من أجل الداخل.. علي الجولات الأوروبية. نحن باختصار شديد في حاجة لسياسة شاملة للانفتاح علي الجنوب.. بالاتفاق مع الإخوة في إثيوبيا علي زراعة ملايين الأفدنة بالعلف الحيواني والثروة الحيوانية وإقامة مصانع هناك لصناعة الجبنة الدمياطي التي اختفت من دمياط.. وإقامة المدارس.. والمسارح.. ودور العرض.. كي يشعر المواطن في دول المنبع أن مصالح دول النهر لا تتجزأ.. وأن ما جمعه الله - سبحانه وتعالي - لا يفرقه الحكام.. من ضعاف الإدراك. وأتمني أن يسارع حكامنا.. بالتوقيع علي الاتفاق الإطاري قبل فوات الأوان وقبل أن يشعر المواطن المصري أن عزلته عن عالمه العربي قد انتقلت إلي عالمه الأفريقي أيضا. وبانضمام مصر لدول المنبع.. ستتمكن من عقد اتفاقات ثنائية وجماعية.. لإقامة المشروعات المشتركة.. وحصول مصر علي لحوم من دول المنبع.. بدلا من استيرادها من دول الفساد وخراب الذمم. وقبل ذلك كله يتعين وجود عقول علي درجة عالية من الذكاء السياسي.. تتجه بنا نحو الإخوة في منابع النيل في ظل انفتاح علي الجنوب.. قبل أن تتجه بنا في ظل انفتاح مخيف إلي المجهول!.