انعكاسات الأحداث السورية تلعب دورا مزدوجا سمير كرم قضيت في لبنان قرابة ثلاثة اسابيع. ولا استطيع ولا انوي ان انكر انني سافرت من القاهرة الي بيروت وفي داخلي قلق واهتزاز بسبب ظروف الجو السائد في مصر من ناحية وبسبب ظروف الجو السائد في لبنان نتيجة انعكاسات الاحداث السورية. غير انني اعود من لبنان علي عكس ما ذهبت اليه ممتلئا بالثقة في مصر واكثر اطمئنانا الي ان علاقات سوريا ولبنان كفيلة باجتياز المحنة التي تعيشها سوريا. كيف كان ذلك؟ لقد غمرتني مشاعر ايجابية تملاْ عقول ونفوس المثقفين اللبنانيين الذين تربطهم بمصر والعروبة علاقة مصيرية علي اقل تقدير. ولا سبيل ابدا الي انكار حقيقة انني كشفت عن اهتزاز فكري ووجداني بسبب الحالة في مصر بجوانبها السياسية والامنية والاقتصادية بعد ان حادت مصر عن طريق ثورة 25 يناير واصبحت واقعة سواء بمشيئتها او بغير إرادتها تحت حكم تنظيم الاخوان المسلمين. واذا بي افاجأ بان “الاخوة اللبنانيين” – كما يحبون ان يطلق عليهم – يملكون ثقة كبيرة بأن “الاخوة المصريين” قادرون علي اجتياز هذه المحنة. ودليلهم علي هذا بسيط جدا. ما علي المرء الا ان يقارن بين تطورات ما بعد ثورة 25 يناير في مصر وتطورات ما حدث في ليبيا واليمن وسوريا وتونس وما يجري في السودان وما يصدر عن السعودية وقطر والامارات والكويت. انهم يرون بوضوح ويؤمنون بان مصر لم تفقد ايا من خصالها الوطنية والقومية وثقافتها وعمقها الحضاري. ان غياب العنف عن مصر – خاصة بالمقارنة الي ليبيا وسوريا – دليل علي ان البعد الحضاري للانسان المصري قائم وقادر علي ان يؤدي دوره في حماية مصر من التقلبات الخطيرة. ان مصر قادرة علي ان تخوض تجارب جديدة بهذه القدرة الانسانية المتحضرة دون ان تهتز فيها خصائصها القوية الممتدة عبر التاريخ. وحتي لو عانت مصر من تناقضات غير مسبوقة مع ثقافتها المتحضرة المتطورة تحت حكم الاخوان المسلمين فانها ستثبت خلال وقت لا يطول انها تستطيع ان تستوعب هذه التجربة وتهضمها وتخرج من اي محنة يمكن ان تصيبها نتيجة هذه التجربة بكل ما لها من صفات اساسية وقدرات علي بلورة التجربة بحيث إن المنتظر ان يخرج الاخوان المسلمون من هذه التجربة في السيطرة علي السلطة غير الاخوان المسلمين الذين عرفناهم طوال سنوات وجودهم الطويلة، بينما تخرج مصر من التجربة لا يعتريها اي تغيير ينال من تكوينها العقلي او الوجداني النفسي. الثقة بمصر كان من الممكن ان اضع عبارات المثقفين اللبنانيين الذين حاورتهم بين مزدوجين ولكني آثرت ان اجمعها في بوتقة واحدة فلم تعد منقولة عنهم كما نطقها كل منهم علي حدة. لا يهم. المهم هو هذا المدد من الثقة بمصر والدور المنتظر منها عندما تبدأ حركة التفاعل مع احداث الوطن العربي. فالمثقف اللبناني يعتبر انه بانتظار ان تعود مصر الي ثورة 25 يناير باسرع ما هو مستطاع في حركة التاريخ وان تستأنف بالتالي نشاط ثورة يوليو العظيمة فتعود حركة التاريخ العربي الي المسار نفسه الذي قاد العرب فيه جمال عبد الناصر ضد الهيمنة الخارجية ومن اجل الوحدة العربية. يؤمن المثقف اللبناني بان مصر لن تغيب كثيرا عن الساحة العربية وان ثورات ما سماه الغرب الربيع العربي لن تلبث ان تخرج من تحت مظلة الهيمنة العسكرية الامريكية ومن تحت مظلة التوجيه السعودي القطري المالية و”الفكرية”. وستؤدي مصر الدور الاكبر الذي كان لها دائما في رد الاعتبار للانسان العربي امام الهجمة الخطيرة للامبرياليين الاميركيين وحلفائهم في اوروبا ومن الحكام العرب. وسوريا ايضا في لبنان يعون جيدا الفرق بين ما حدث ويحدث في مصر في الفترة الراهنة وما حدث ويحدث في سوريا. يعون جيدا ان مصر قاومت التعامل معها من جانب الامبريالية الامريكية بالطريقة نفسها التي تعاملت بها مع ليبيا، ويضيفون الي ذلك ان سوريا ايضا – انما بطريقة مختلفة يبرز فيها الطابع العسكري في المواجهة – تقاوم بالمثل ان تستسلم علي الطريقة الليبية للخطة الغربية -العربية، وكثيرون منهم يتوقعون ان تنتصر سوريا عربيا علي المخطط العدائي الذي يريد ان يضيف سوريا الي قائمة التابعين للنفوذ العسكري والاقتصادي الغربي. صحيح ان المثقف اللبناني العروبي يري اشياء كثيرة مشتركة تبرزها الرؤية التاريخية بين مصر وسوريا، ولكن هذا لا يخفي حقيقة ان ما بين لبنان وسوريا اعمق واقوي مما بين مصر وسوريا. وهذا امر يعيه الوجدان اللبناني كله وليس العروبي وحده. إن ابسط تعبير عن العلاقة الخاصة التي تربط بين سوريا ولبنان – ولا تكاد تربط بين اي بلدين عربيين متجاورين – يتمثل في قول مأثور ليس معروفا علي وجه التحديد من هو قائله: شعب واحد ودولتان. انها مسلّمة لا يستطيع الفكاك منها ومن معناها الخاص حتي اولئك الذين يريدون الفصل السياسي التام بين لبنان وسوريا (مثل القوات اللبنانية وحزب الكتائب). فحتي اولئك لا يجرؤون علي انكار هذه العلاقة الخاصة بين سوريا ولبنان وان ارادوا ان ينتهوا الي نتائج مغايرة تخدم اهدافهم الطائفية ذات الطابع السلطوي. اما في سوريا فلا يكاد يكون هناك وجود – حتي بين المسيحيين السوريين – لمن لا يعترف بهذه الحقيقة، شعب واحد ودولتان – بل ان الغالبية الساحقة من السوريين تتجاوز هذه الصيغة الي ما هو اكثر حميمية عن العلاقة بين هذين البلدين. فهم يؤمنون بان وجود سوريا ولبنان كدولتين منفصلتين يرجع الي مؤامرة امبريالية قسمت الوطن العربي بين المستعمرين البريطانيين والمستعمرين الفرنسيين. وبالتالي فان من الطبيعي ان تنعكس احداث سوريا الخطيرة الجارية علي لبنان بكل جوانبها العسكرية والسياسية والبشرية. نزوح إلي لبنان وفي المناخ السائد في لبنان اثناء هذه الاحداث السورية فان الجانب البشري من هذه الاحداث وتأثيراتها هي التي تشغل عقول اللبنانيين وافئدتهم. فقد وجد لبنان نفسه امام موجة نزوح للسوريين بعشرات الالاف الي الاراضي اللبنانية. وعلي الرغم من ان هذا النزوح السوري في جانب منه قد افاد لبنان اقتصاديا اذ عوضه عن فقدان الموسم السياحي بسبب احداث سوريا القريبة، لكن اللبنانيين كانوا من الحساسية الاجتماعية ازاء هذا النزوح بحيث ميزوا بين نزوح الاثرياء السوريين بسياراتهم الفارهة الذين شغلوا كل الغرف والاجنحة الخالية في فنادق لبنان وخاصة بيروت مما عوض اللبنانيين الي ابعد حد عن خسارة الموسم السياحي. ومن ناحية اخري نزوح الفقراء البسطاء السوريين للاسباب نفسها الي الاراضي اللبنانية. فهؤلاء لم يستطيعوا ان يشغلوا غرف الفنادق انما افترشوا العراء في المناطق الريفية والجبلية اللبنانية وبدأوا رحلة البحث عن الغذاء والمأوي. هكذا انعكست احداث سوريا الدامية بوجهين متباينين علي حياة لبنان واللبنانيين. من ناحية افادت ومن ناحية اخري ارّقت مشاعرهم الانسانية تجاه “الاخوة السوريين”. ويتضح في هذه الظروف المعقدة بكل تناقضاتها وانعكاساتها ان صيغة الشعب الواحد والدولتين لا تستطيع ان تصمد في وجه العنف الدائر في سوريا والحيرة السائدة في لبنان بشان ما يمكن ان تنتهي اليه هذه التطورات بكل خطورتها. والامر الذي لا شك فيه ان بعض اللبنانيين يخشي من احتمالات امتداد الاحداث في سوريا الي لبنان بما تتسم به من عنف وبما يفعله التدخل الخارجي الذي لا يعنيه شيء من النتائج التي يحدثها هذا العنف من قتل ودمار. غير ان روح التفاؤل الغالبة علي النفسية اللبنانية – والتي كانت واضحة تماما لمن عايش ظروف الحرب الاهلية في لبنان – وقدرة الشعب اللبناني الاستثنائية علي التكيف مع الظروف الصعبة وتخطيها توحي مرة اخري بان اللبنانيين يتطلعون الي المستقبل – حتي المستقبل القريب – بامل وبروح ايجابية. وبين آمال اللبنانيين في الظروف الصعبة الراهنة ان مصر ستتمكن من اجتياز مصاعبها لتستانف دورها العربي وان سوريا ستعود الي وضعها الطبيعي حيث لبنان وسوريا شعب واحد ودولتان. ربما لهذا اعود من لبنان الي مصر متفائلا ولم اكن كذلك عندما ذهبت اليه (…)