اِدعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه الأسبوع الماضي إلى الأمة الفرنسية, أن العملية الروسية الخاصة لنزع السلاح"النازية" في أوكرانيا ليست معركة حقيقية ضد النازية، لينضم بذلك إلى جوقة القادة السياسيين ووسائل الإعلام في الغرب الذين يقللون من شأن مشكلة النزعة القومية الأوكرانية المتطرفة أو ينكرونها تمامًا. تحدث الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" قبل بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا, لما يقرب من حوالي 6 سنوات, في خطابات رئاسية وأحاديث صحفية متعددة عن تصاعد النزعة القومية العنصرية المتطرفة ضد الروس والأوكران الشرقيين في أوكرانيا, وحذر في مناسبات متنوعة أن هذا التوجه المتطرف سيؤدي لأزمة إنسانية في أوكرانيا, بعد أن تكررت الاشتباكات العسكرية بين الانفصاليين الروس في الدونباس ومسلحي الجماعات اليمينية المتطرفة, وكانت هذه الأحداث العنصرية هي الركن الرئيسي الذي أستند عليه الرئيس الروسي في شرعنة التدخل الروسي في أوكرانيا, في ظل إنكار تام للولايات المتحدة والغرب لوجود مثل هذا المد العنصري في أوكرانيا. هل كانت هذه الروايات عن الخطر القومي المتطرف الصاعد في أوكرانيا القادمة من روسية صادقة فعلًا؟ أم هي مجرد وسائل دعائية لتبرير التدخل العسكري الروسي المُخطط له منذ زمن, كما يذهب المراقبون الغربيون؟ تصدرت كتائب أوكرانيا القومية المتطرفة والنازية الجديدة عناوين الصحف بعد اِنقلاب فبراير 2014 في البلاد, ليتم تجاهلها تمامًا لاحقًا والتقليل من دورها من قِبل وسائل الإعلام الرئيسية في أوكرانيا وأوروبا. "الجماعات اليمينية المتطرفة والمعادية للسامية والمعادية لروسيا والتي تعلن بكل شفافية عن توجهاتها الفاشية موجودة بالفعل في كل أرجاء أوكرانيا الحديثة ", هكذا كتبت الإذاعة الأمريكية سي إن إن في مارس 2014. ونقلت عن قرار البرلمان الأوروبي لعام 2012 الذي أثار 18 نقطة تعبر عن قلق بشأن السياسات المضمنة في قوانين برلمان الأوكراني، وندد ب "المشاعر القومية المتزايدة في أوكرانيا". تغيير النظام اعترفت سي إن إن أن الأحزاب والجماعات القومية المتطرفة في أوكرانيا، بما في ذلك تنظيم "سفوبودا "والقطاع اليميني القوميين المتطرفين، لعبت دورًا مهمًا في تغيير النظام عام 2014 في كييف وتولت لاحقًا مناصب في مجلس الأمن القومي والدفاع، ومكتب المدعي العام، ووزارتي البيئة والزراعة في الحكومة المؤقتة. بعد فترة وجيزة من الانقلاب، شهدت أوكرانيا تشكيل كتائب قومية متطوعة نفذت هجمات ضد جمهوريات دونباس الاانفصالية وأرهبت المدنيين الأوكرانيين الشرقيين. أحد قادتهم، الملقب ب"آزوف" ، الذي عمل تحت قيادة " أندريه بيليتسكي"، الزعيم السابق لفرع خاركوف في منظمة "ستيبان بانديرا" بعموم أوكرانيا واختصارها "تريزوب" والمؤسس المشارك للحركة القومية المتطرفة المسماة بالجمعية الاجتماعية الوطنية. ونُقل عن "آزوف بيليتسكي" قوله في عام 2010 إن مهمة أوكرانيا هي "قيادة الأجناس البيضاء في العالم في حملة صليبية أخيرة ضد أنصاف البشر". كان "آزوف" عضوًا في البرلمان الأوكراني بعد الانقلاب بين عامي 2014 و 2019. انضم "آزوف" رسميا إلى الحرس الوطني الأوكراني في عام 2014. الفوج العسكري الذي يقوده "آزوف"، الذي لا يزال يرتدي بفخر شارة النازية الجديدة، زاع صيته عن الاعتداء والتشريد السكان في شرق أوكرانيا، ونهب الممتلكات المدنية، فضلًا عن اغتصاب وتعذيب المعتقلين في دونباس، وفقا لتقرير الأممالمتحدة لعام 2016 الصادر عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان. نشر الأيدلوجية وتقوم المنظمات القومية الأوكرانية والحركات السياسية بنشر أيديولوجيتها بين الشباب بدعم وتمويل من كييف. في عام 2020، خصصت الحكومة الأوكرانية أموالًا للمشاريع التي يشرف عليها القوميون المتطرفون ، بما في ذلك "سباق سايبورغ إيغور برانوفيتسكي الخيري"، و"دورة يونغ بانديريت"، و"مهرجان باندرشتات للروح الأوكرانية" ، إلخ. كما كان من المقرر أن تتلقى المشاريع القومية 8 ملايين هريفنيا (266 ، 416 دولارا) وهو ما يقرب من نصف الأموال المخصصة من قِبل الحكومة الأوكرانية لصالح المنظمات التي تعمل على دعم الأطفال والشباب. كذلك تضمنت قائمة أعمال ومشروعات الوزارة لعام 2020 أيضا مشروع بعنوان " غير مهزوم "– الذي سمي على شرف "ياروسلاف روبرت ميلنيك"، الزعيم الإقليمي لمنظمة القوميين الأوكرانيين في منطقة الكاربات و" المُربي السياسي الرئيسي " لجيش المتمردين الأوكراني(وهي منظمة قومية متطرفة كذلك). اشتهرت منظمة القوميين الأوكران "أون" بالتعاون مع ألمانيا النازية وممارسة التطهير العرقي لليهود, الروس والبولنديين في الأراضي التي احتلها النازيون في أوكرانيا خلال الحرب العالمية الثانية. وليتبين لنا حجم تأثر الحركات القومية بهذا الإرث الفاشي, قام الرئيس "فيكتور يوشينكو" بتغيير المناهج الدراسية الأوكرانية لتمجيد منظمة "أون" وجناحها العسكري الملقب ب"أوبا" ومنح ألقاب بطل أوكرانيا لقادة المنظمتين "رومان شوخيفيتش" و"ستيبان بانديرا" في عامي 2007 و 2010 ، على التوالي. تمجيد النازية وفي مايو 2011، ألغت المحكمة الإدارية العليا في أوكرانيا أوامر "يوشينكو"، لكن سرعان ما أعطى الرئيس اللاحق عليه "بترو بوروشينكو" منظمتي "أون" و "أوب" لقب" المقاتلين من أجل استقلال " أوكرانيا في عام 2015. اعتبارا من هذا اليوم ، تم نصب عدة مئات من الآثار والتماثيل وسميت الشوارع على اسم من تعاونوا مع النازيين السابقين في أوكرانيا. وبناء على ذلك في 16 ديسمبر 2021، ناقشت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا دعا إلى مكافحة تمجيد النازية والنازية الجديدة والممارسات الأخرى التي تغذي العنصرية وكراهية الأجانب. الدولتان الوحيدتان اللتان صوتتا ضد القرار هما الولاياتالمتحدةوأوكرانيا. "أون": تاريخ حافل مع النازية "تأسست منظمة القوميين الأوكرانيين "أون" في عام 1929، وأصبحت الحركة السياسية المهيمنة لليمين المتطرف الأوكراني. تم تشكيلها من عدد من الجماعات القومية والفاشية الراديكالية وكانت، في البداية، تحت قيادة قدامى المحاربين المحبطين بسبب فشلهم في إقامة دولة أوكرانية في 1917-1920″ ، كتب "بير أندرس رودلينج"، وهو مؤرخ سويدي أمريكي وأستاذ في قسم التاريخ في جامعة لوند في دراسة عام 2011 "أون وأوبا، والمحرقة: دراسة في صناعة الأساطير التاريخية". وفقا لرودلينج ، ليس هناك شك في أن منظمة "أون" اتسمت بال "فاشية" منذ إنشائها. النقاء العرقي كانت فكرة النقاء العرقي فكرة مهيمنة على أيديولوجية المنظمة. فقد نشرت الصحافة الأوكرانية المنتمية إلى القوميين بانتظام مقالات معادية للسامية منذ عام 1930.بعد الاحتلال النازي لأوكرانيا في عام 1941، في ظل تعاون المنظمة مع النازيين انطلقت نحو موجة من التطهير العرقي في الأراضي المحتلة".وقامت كتيبة "ناختيغال"، التي تتكون بشكل حصري تقريبًا من نشطاء "أون" الذين كانوا يخدمون بالزي الألماني تحت قيادة "شوخيفيتش"، بالتطهير العرقي الجماعي لليهود بالقرب من فينيتسا في يوليو 1941" ، كتب رودلينج. "تم توثيق ما لا يقل عن 58 مذبحة في المدن الأوكرانية الغربية، وتقدر أعداد الضحايا بين 13000 و 35000 ضحية". في 29-30 سبتمبر 1941، أعدمت القوات النازية ومعاونوها الأوكرانيون ما يقرب من 34000 يهودي في بابي يار، في العاصمة الأوكرانية كييف. ومن عام 1943 وحتى وصول الجيش السوفيتي إلى أوكرانيا، نفذت "أون"عمليات تطهير عرقية واسعة النطاق للبولنديين في فولينيا وغاليسيا والتي أودت بحياة ما لا يقل عن 88700 شخص، بما في ذلك الأطفال والنساء وكبار السن. يقول المؤرخ :"استخدم القتلة في المقام الأول الأدوات الزراعية-المناجل والسكاكين. بارك الكهنة الأرثوذكس هذه الأسلحة في كنائسهم. كانت الجثث في كثير من الأحيان يتم تشويهها من أجل تجريد الضحية من إنسانيتها و إرهاب الأقارب والأحباء ".. بعد هزيمة ألمانيا النازية في عام 1945، انضم أعضاء "أون" ووحداتهم شبه العسكرية إلى الجماعات التخريبية الأجنبية ومنافذ الدعاية ووكالات الاستخبارات للقتال ضد الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة. وفي عام 1956، قامت وكالة المخابرات المركزية بدمج مجموعة من الشبكات تحت قيادة "ليبيد" وأنشأت جمعية الأبحاث والنشر غير الربحية، والتي هدفت إلى نشر دعاية مناهضة للشيوعية، عبر البث الإذاعي والصحف والكتب. وأشار المؤرخ إلى أنه خلال الحرب الباردة، كان الشتات الأوكراني وقدامى المحاربين في "أونا-أوبا" مشغولين بتبييض جرائم المنظمة. لقد مارسوا تزييفًا تاريخيًا حول كون منظمة "أون و أوبا" منظمات تعددية وجامعة أنقذت اليهود خلال الهولوكوست وقاتلت جنبًا إلى جنب ضد هتلر وستالين. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بدأت هذه الروايات في سد الفجوة التي خلفها غياب الأيديولوجية السوفيتية في دولة أوكرانية جديدة. استيراد مفاهيم "على عكس العديد من الجمهوريات السوفيتية السابقة الأخرى، لم تكن الحكومة الأوكرانية بحاجة إلى اختلاق سرديات وطنية جديدة من الصفر، ولكنها استوردت مفاهيم جاهزة تم تطويرها في الشتات الأوكراني"، كتب رودلينج:"لكن المشكلة هي أنه على الرغم من التلاعب بالتاريخ، فإن الجذور الفاشية للقومية الراديكالية الأوكرانية لم تختف أبدًا". حصل الورثة الأيديولوجيون ل"أون" على فرصتهم الأولى للحصول على اعتراف حكومي في عهد "فيكتور يوشينكو"، وبعد تولي "فيكتور يانوكوفيتش" الذي استمرت ولايته لأربع سنوات، عادوا إلى المسرح ليحصلوا على المزيد من السلطة واختراق نسيج المجتمع الأوكراني. لكن كيف يمكن الحديث عن هذا النفوذ الكبير للحركات اليمينية المتطرفة في أوكرانيا, في ظل حكومة يقودها رئيس يهودي داعم لإسرائيل وهو "فولودومير زيلنسكي"؟ صعود زيلنسكي يجيب "جينادي مالينكوف" أستاذ العلوم السياسية بجامعة سان بطرسبورج, أن صعود زيلنسكي لقيادة الحكومة أتى عبر تنسيق أمريكي بين الأطراف المتنوعة بين القوى السياسية المؤثرة في أوكرانيا, من بينها الحركات القومية المتطرفة, لكن سرعان ما تبين أن الرئيس الأوكراني الجديد الذي تولي الرئاسة في 2019, لا يتمتع بالسيادة على البلاد ولا على التوافق مع القوى السياسية في أوكرانيا, حيث رفض البرلمان الأوكراني مقترحات ومبادرات متنوعة لزيلنسكي, أبرزها اقتراحه لتحويل النظام الانتخابي الأوكراني إلى نظام للتمثيل غير المباشر عوضًا عن الاقتراع المباشر من البرلمان الأوكراني, حسب مالينكوف. وربما تكون مسألة طلب الانضمام للناتو والاتحاد الاوروبي هي المبادرة الأهم لزيلنسكي, الذي رأى فيها أنها ستكون الفرصة المناسبة لكي يحصل على الإجماع الأوكراني في مواجهة العدو الروسي, وليجدد من خلالها تأييد القوى اليمينية له.