معرفتى بجار النبى هى الشيء الوحيد الذى يكشف عن عمرى وعن حقيقتى، ربما يمكننى أن أختصر بضع من السنوات أكثر من أو أخفى بعضا من الحقائق ولكن علاقتى مع جار النبى تكشف كل شيء. ربما كان هو الوحيد وربما كنت أنا أيضا الوحيد اللذان عشنا معا لحظات التكوين الأولى بكل ما فيها من عفوية وترقب، وربما كان أهم الاكتشافات فى حياتى هى التى اكتشفتها معه. لقد غادرت المحلة فى مرحلة مبكرة وطفت معظم أرجاء العالم فى مرحلة متأخرة ولكنى فعلت ذلك بعقل واع قد أتم تكوينه، ولم تفعل بى هذه الرحلة الطويلة أكثر من أنها أضافت إلىّ المزيد من التفاصيل ولكنها لم تغير شيئا من قناعاتى، كانت تجاربى الأساسية قد اكتملت وكانت جروح الروح قد التأمت، ولم يعد هناك مجال للتراجع أو التأسى. واجهت أنا وجار النبى تجربة الموت للمرة الأولى حين مات واحد من أعز أصدقائنا أمام أعيننا غرقا فى بحر كفر حجازى، وقد طبعت هذه التجربة حياتنا بالخوف لفترة طويلة وقربت المسافة بيننا إلى حد بعيد، كنا خائفين ومرتجفين وقد فرض علينا السيد الموت وجوده منذ زمن مبكر وكان ثالثنا فى هذه التجربة الشاعر "فريد أبو سعده" واعتقد أن الصداقة العميقة التى نمت بين ثلاثتنا فى تلك الأيام لن تفصل عراها تلك الأيام الضنينة مهما تباعدت المسافات ولا أستطيع أن أذكر عدد الساعات التى قضيناها نحن الثلاثة فى تلك الغرفة العلوية فى منزل جار النبى، كانت هذه أكثر غرفة فى العالم جمعت عددا من الأصدقاء، وكنا نحن الثلاثة أكثر من عاش فيها، ذاكرنا فيها معظم مراحل الدراسة قبل الجامعة وكتبنا فيها بدايات القصص والأشعار وقرأنا الكتب التى طبعت بداياتنا وعشنا فيها أيضا كل خيبات الحب الأولى، ماذا كان فى العالم غير ذلك؟!! من الغريب إننا رغم كل طول هذه العشرة لم نكن متشابهين كل واحد منا كان نسيجا مختلفا.. جار النبى آمن بالواقعية الاشتراكية إلى حد متزمت وكتب الكثير من القصص فى هذا المجال، ثم تخلى عن غرفته عندما تمكن من حرفته وأدواته الأدبية وبدأ مثل كل القصاصين الموهوبين يضع مفردات عالمه الخاص، ولم يخرج هذا العالم عن مدينتنا الصغيرة "المحلة" ولكنه صنع مدينة مختلفة تشبهها وتبتعد عنها فى الوقت نفسه، لقد دخلت تفاصيل البيوت والشوارع ومصنع النسيج الضخم والحقول والترع التى تحيط بها إلى ذاته، وخرجت منها مدينة مختلفة أكثر طفولية وبراءة، ولكنها براءة خادعة أحيانا لأنها تخفى داخلها عنف الحياة وقسوتها وصراعاتها. لقد كانت اختيارات جار النبى دائما صعبة للغاية ففى الوقت الذى سعى فيه معظم أبناء جيله – بمن فيهم أنا وفريد أبو سعدة وسعيد الكفراوى ومحمد صالح ونصر أبو زيد- إلى السفر إلى القاهرة حيث تتوفر أدوات النشر وتتسلط أجهزة الإعلام فضّل هو البقاء، قرر أن يغزو القاهرة من موقعه فى المحلة وهى محاولة شبه خاسرة لكل من حاول أن يجربها، ولكن دهشتى الشديدة فقد صمد جار النبى طويلا وهو مازال صامدا على أية حال، وهو لم يكتف بأن يجد له مكانا على الصفحات الثقافية فى القاهرة فقط ولكن فى العديد من العواصم العربية. لقد تحدى الغول الكامن فى العاصمة وحافظ على سلامة النفس التى فقدناها جميعا فى بحثنا اللاهث عن مكان وسط هذا الزحام والصخب، ولم يحسن جار النبى استثمار هذا المكان الصغير فقط ولكنه أحسن استثمار المتع الصغيرة أيضا، ولعل هذا الأمر هو الذى جنبه الكثير من الاغراءات، وأعتقد لو أن الشيطان جاء إليه وهو يستريح فى ظل شجرة ووعده بكل ما فى العالم من أضواء ساطعة لفضل مواصلة الرحلة فى ظل الشجرة. لقد حوّل أحلامه وطموحاته ولحظات ضعفه ومخاوفه وضيقه من الآخرين إلى كلمات.. مجرد كلمات مجردة مركبة لا تؤذى ولا تسيل دما، ولكنها كفيلة بأن تطهره أولا بأول، ولعل هذا هو الذى أهله حتى يدخل عالم الأطفال ويقص عليهم العديد من القصص، لقد استطاع أن يتحول إلى عالم الطفل بسهولة بالغة لأنه يملك كل مؤهلات هذا التحول.. شيء من البراءة والكثير من الصدق وقدرة على الغوص فى عالم آخر كان دائما ما يأخذه بعيدا عن الحيز الضيق الذى يحيط به. كان جار النبى الذى عاش محاصرا بكل ظروف الحياة يرفض هذا الحصار ويسمو عليه ويخلق عالما بلا حدود، ألم أقل لكم من قبل أنه أقام مدينته الخاصة، وهو لم يملأ هذه المدينة بالتفاصيل فقط ولكنه ملأها بضحكته المجلجلة.. إنها ضحكة لازمته منذ زمن الطفولة حتى بداية الكهولة وهى الشيء الوحيد الذى لم يشخ حتى الآن، ربما كان قلبه لم يشخ أيضا ولكن الله عليم بالقلوب المهم أنه كان يقابلنى دائما بهذه الضحكة مهما عدت إليه مثخنا بالجروح حاملا معى حفنات من الهزائم والاخفاقات، كان يحزن من أجلى قليلا ثم ما تلبث ضحكته أن تخونه فترتفع مجلجلة. وإذا كانت الموهبة لا تورث فإنه أيضا خالف هذه القاعدة وأعطى جزءا من قبس ابداعه لابنته "وسام" هذه الآنسة الصغيرة هى بلا شك قاصة موهوبة ولها أفكار ولمحات تثير الحسد فى نفوسنا نحن القصاصين، وربما كانت هذه أيضا احدى هبات الطبيعة لجار النبى أن يرى من يتبع خطاه أو بالأحرى يرى ظلا له مفعما بالرقة والحياة. لقد ابتعدت فى السنوات الأخيرة عن مدينتى بأكملها وعشت وسط ديار العديد من المدن وتركت جزءا من ذاكرتى فى كل مكان وأحسست باللوعة والحنين والاشتياق ووقفت على حافة ذلك الخط الوهمى الذى تحتار فيه الروح لأى الأماكن تنتمى وفى أيها يمكن أن تجد راحتها، ولكنى كنت أدرك بطريقة غامضة أن قبرى لن يوجد إلا فى مكان واحد حيث يوجد من يضع عليه زهرة من الصبار ويرش قليلا من الماء ويقرأ الفاتحة وأعتقد أن جار النبى سوف يقوم من أجلى بكل هذه الأشياء. محمد المنسى قنديل