ما الذي أفقد الأبناء. الرحمة بالوالدين. والبر بهما. وضياع الإحسان إليهما. وعطل وصية القرآن بحسن معاملتهما. وأغفل مصاحبتهما الجميلة. والقول الطيب اللين لهما. حتي ولو كانا مشركين. لم يلحظ أي من العاقين للوالدين أن البر بهما. والإحسان إليهما واجب يلي عبادة الله في الرهبة والمكانة. إن ما قرأته من اعتداءات وإهانات وتعذيب وجحود من الأبناء للآباء وأصدرت فيه أحكاماً. يتضاءل أمام قضية نظرتها وأنا قاض بالمحاكم الجزئية بمحافظة المنوفية منذ أكثر من ثلاثين عاماً. والتي تتحصل في أن شقيقين أحدهما بار بأمه الأرملة العجوز. يرعاها ويحافظ عليها. ويسعي لإرضائها بمعاونة زوجته الطيبة الصالحة. لم يحصل علي قسط من التعليم يؤهله للالتحاق بوظيفة. فعمل فلاحاً في أرض والدته. يبذر الحب فينبت. ويرعي الزرع فيستوي علي سوقه. ليفرح يوم حصاده. تدعو له أمه ولأولاده بالبركة فينعم. وتستقر حياته. الآخر موظف بإحدي الهيئات الحكومية دائم الشكوي. كثير النكران لجميل أمه التي توفي عنها زوجها وهما صغيران. لم يعتركا الحياة ومشاكلها. فسهرت عليهما. وأحسنت إليهما. وإن كان هذا السهر وذلك الإحسان لم يمسا شغاف قلب الابن الموظف الذي سيطرت عليه زوجته. وزرعت النكد. والهم. والغم في حياته. وحياة عائلته.. اخترعت قصة لئيمة أوحت بها إليه فحواها أن أخاه المزارع سوف يستولي علي أرض أمه ويسلبها لنفسه. إن لم تكن فعلاً قد حررت عقداً لصالحه دون أن يدري. فأضرمت النار في قلبه. وبثت الحقد والغضب في نفسه. وصدق هذه الأقاويل. فحاك الشر في أعماقه. واخترع حيلة قد تمكنه من الحصول علي نصيبه في الأرض. ذهب إلي شقيقه يطلب منه أن يسمح له بذهاب أمهما إلي بيته بدعوي أن أولاده يشتاقون إلي جدتهم والعيش معها ولو أسبوعاً. زاد في الإلحاح بمكر ولؤم حتي وافقت الأم علي أن تنتقل من منزل ابنها الفلاح إلي منزل ابنها الموظف في ذات القرية. هناك دبرت المكائد. وارتكبت الحماقات ووقعت الجريمة.. في أول الأمر سايسها. مستكيناً. طالباً منها أن تكتب له نصيباً من الأرض بحق النصف حتي لا يطمع شقيقه حسب زعمه في الأرض كلها.. رفضت الأم محتجة بأنها لا تعرف كم يطول بها العمر. وأضافت أن أخاه يزرعها لحسابها. وهي المتصرفة في ناتج الزرع وحاصله. تتقاضي من أخيه ثمن كل ما يزرعه ويبيعه. بعيداً عن الزراعات التقليدية. وتركيزاً علي الخضار بأنواعه حتي يمكن لهما مواجهة أعباء الحياة. وأن أخاه مثل كل فلاح منوفي شاطر يذهب وزوجته ليبيع كثيراً من ناتج الأرض بنفسه في السوق بمعاونة زوجته والباقي يشتريه تجار الخضار في المدينة. وذكرته أن الأرض بعض قراريط تزيد علي نصف فدان بقيراط واحد.. رفض الابن هذا القول واستشاط غضباً. وأخذ يتوعد ويرغي. ويزبد ويهدد.. طلبت الأم العودة إلي بيت شقيقه فما كان منه إلا أن أدخلها حجرة مظلمة لمدة شهر كامل لا تخرج منها أبداً بصعوبة بالغة لقضاء حاجتها. ويدخل إليها الطعام لتأكله في الظلام الدامس. كلما سأله شقيقه عنها يدعي رغبة الأولاد في بقائها. وحين يريد رؤيتها يزعم له أنها نائمة. ويفضل أن تستريح. دخل الشك قلب الابن البار. وصمم علي رؤيتها. اشتد النقاش بينهما فنادي الابن عليها بأعلي صوته. فتنزل الصاعقة علي الابن الفلاح حين سمع اسمه تناديه وتستغيث به من داخل الحجرة. فكسر بابها. ليجد أمه في حجرة مظلمة أشبه بمآوي الأرانب. وفراش بال غير نظيف. ووجه مصفر. وعيون زائغة. دموع تنهمر كالشلال. تقوس في الظهر. لا تكاد تقوي علي رفع قدميها. لتخطو خارج الغرفة. وقفت الأم أمام المنصة تحكي قصة عذابها المهين. وجحود الابن العاق. لكل ما قدمته يداه إليه. وقسوة الزوجة وإهانتها المستمرة لها. حتي توقع علي ما أراده هذا الجاحد. وما يظنه نصيبه من أرضها التي لا تجد غيرها مصدراً لقوتها بمعاونة الابن الفلاح. تضج القاعة بالبكاء والاشمئزاز من الابن فاقد المروءة. وعديم الإنسانية والشفقة. تلقي الأم بقنبلة أمومية طبيعية ومتوقعة كشأن أي أم قالت: "أنا سامحته يا بيه.. والنبي ما تعمل حاجة تأذيه.. ربنا يهديه". وهنا علمت لماذا أوصي القرآن الأولاد بالوالدين. لماذا التركيز علي حث الأبناء بالبر بهما. وعدم مخالفتهما في غير الإيمان بالله. حتي ولو كان علي غير الملة. دعا إلي رعايتهما. ومصاحبتهما. في الدنيا بالمعروف. وحرم توجيه أي قول أو فعل لهما مهما كان ضئيلاً.. ولماذا لم يوص القرآن الوالدين بأولادهما. وتركيز كل الاهتمام بتوجيه النصح للأولاد.. لأن العاطفة لدي الوالدين طبيعية. والمحبة متملكة من القلب. وساكنة في الأعماق. لا يحتاج الأب أو الأم وصية لرعاية الأولاد. والمشاعر الطبيعية الرحيمة الساكنة في أعماق الوالدين. كما أنه لا يمكن للأولاد توفية الوالدين حقهما أو رد بعض ما قدماه لهم من نبل وشفقة وحب ورحمة. تحضرني في ذلك حكاية الابن الذي طلب من أبيه أن يرد له جميع ما قدمه له من فضل منذ ولادته حتي الآن. أجاب الأب أنه لن يستطيع ذلك. وأصر علي ما أراد. طاوعه أبوه وطلب منه أن يحمله علي كتفه. ويسير به في الأسواق. نفذ الابن طلبات أبيه وسار به. فرأي الأب لعبة أراد أن يشتريها ابنه له. فاشتراها الابن وأعطاها لأبيه. ألقاها الأب علي الأرض. فالتقطها الابن وأعطي إياها لأبيه. فأسقطها مرة ثانية وثالثة وفي الرابعة قال لأبيه أنت رجل مجنون.. كلما أعطيك اللعبة تلقيها أرضاً. هنا قال له الأب أما قلت لك إنك لا تستطيع أن ترد فضلاً مما أعطيتك إياه.. يا بني.. وأنت طفل صغير ألقيت مثل هذه اللعبة عشرات المرات والتقطها لك دون أن أتململ أو أتذمر. فامض إلي سبيلك لا أبغي إلا نجاحك في حياتك. ودعاء لي بالرحمة. رأيت أن معاقبة الابن بحبسه مع النفاذ هو إيذاء للأم. وجرح لمشاعرها. وعذاب فوق عذابها قد لا تتحمله. كما أن انصرافه دون أي إجراء. عمل لا ترتاح إليه نفس القاضي وضميره. فطلبت منه أن يركع تحت قدميها ويقبلهما. فبكت الأم. وربطت علي رأسه قائلة له الله يهديك يا ابني. وكانت العقوبة مع الإيقاف.