أنارت في الآفاق ليالي شهر ذي القعدة المبارك. الذي انتصر فيه المسلمون بقيادة سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم علي بني قريظة قبيلة نقض العهود. وخيانة الاتفاقات.. وشهر ذو القعدة ظهرت فيه قوة المسلمين واتحادهم والتفافهم حول رسولهم القائد. وأظهرت حكمته صلي الله عليه وسلم وبصيرته في صلح الحديبية. كان الرسول صلي الله عليه وسلم حين دخل المدينةالمنورة. وفي مجال تأسيسه للدولة الإسلامية. عقد اتفاقاً بين المسلمين في المدينة وباقي أتباع الأديان الأخري المقيمين بها وما حولها. ومنهم يهود بني قريظة علي ان يتعاونوا في الدفاع عن المدينة ضد أعدائها. ومواجهة مؤامرات القبائل المشتركة التي تحيط بها من كل جانب وأعطي الحرية الدينية لكل من يقيم بها تحقيقاً لكرامة الإنسان وحمايته من القهر والاستبداد. ومنع الظلم والتسلط عليه ليعتنق ما يعتنقه. وعلي طرفي الاتفاق ضد كل من يحاربهم أو يحاول ان يقتحم يثرب من المشركين المخالفين لهم. وحين حاول المشركون في مكة محاصرة المدينة وتدميرها والقضاء علي المسلمين فيها. لم يقف اليهود موقف المدافع مع المسلمين أو حتي موقف المحايد إنما استغلوا مناخ التضييق علي حلفائهم المسلمين. واتفقوا مع المشركين الذين حاصروهم وعملوا علي تطويق مدينتهم بغرض القضاء النهائي علي محمد وأتباعه. وساعدوهم في عملهم العدواني وأخذوا في الاستعداد للهجوم علي المسلمين من خلفهم مع المشركين. ولكن ثبات المسلمين مع قائدهم رسول الله صلي الله عليه وسلم وقد حفروا خندقاً حول المدينة ليمنع الدخول إليها. وكان سهلاً علي المسلمين القضاء علي من تسول له نفسه عبور الخندق أو القفز علي الناحية الأخري من المشركين حتي ولو كان من أقوي رجالهم. كما حدث مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. حين تصدي لفارس قرشي وهو عمرو بن ود الذي اشتهر بجرأته وبقوته. وقد قفز هذا الرجل بحصانه عبر الخندق متحدياً من يواجهه. فأمر رسول الله عليه وسلم علياً بأن يتصدي له. وكان قد ألح في طلب ذلك. فما ان برز له علي حتي أطاح برأسه من فوق حصانه ليجهز عليه ويكبر المسلمون فرحاً بذلك.. وهكذاً.. إلا ان الحصار طال بعض الشئ. ولكن كفار قريش في ليلة عصفت الريح فيها بخيامهم وأشيائهم. فروا مستترين بالظلام خوفاً ورعباً. كان ولابد من مواجهة اليهود الذين نقضوا العهد. وخانوا الاتفاق. وحاكوا المؤامرة مع القرشيين للقضاء علي المسلمين نهائياً.. ولو تمكنوا مما أرادوا لأنهوا حياة المسلمين ونبيهم. وقضوا علي الإسلام قضاء تاماً لا قيام بعده. ومن ثم كان لابد من محاكمتهم. وإنزال حكم الله فيهم. وذلك بأن الرسول حكم فيهم من ارتضوه حكماً. وجاء حكمه بقتل من بلغ الحلم من الرجال. وسبي النساء. وتقسيم الأموال. وقال الرسول للحكم حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات. ويجدر القول ان هذا الحكم جاء موافقاً لقانون الحرب في شريعة اليهود.. جاء في سفر التثنية الإصحاح العشرين "وحين تقرب من مدينة لكي تحاربها. استدعها إلي الصلح. فإن أجابتك فكل الشعب الموجود فيها يكون للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً حاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلي يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم. وكل ما في المدينة كل غنيمتها فاغتنمها لنفسك..". هذا ما فعله سيدنا رسول الله فضلاً عن أن ذلك هو قاعدة المعاملة بالمثل. وفي هذا رد علي المتنطعين الذين يرون في القضاء علي بني قريضة عملاً مرفوضاً متغاضين عما كان يحدث لو انهزم المسلمون في موقعة الخندق. وفي ذي القعدة- أيضاً- تجلت عظمة الرسول وحكمته حين توجه إلي مكة يريد الاعتمار لا يحمل معه سلاحاً سوي السيوف في غمدها. يتصدي له المشركون في مكة. وينتهي الخلاف إلي عقد معاهدة سميت بصلح الحديبية وهو اسم المكان الذي تجمع فيه المسلمون. وأملي القرشيون شروطاً اعتبرها المسلمون المرافقين لسيدنا رسول الله شروطاً مجحفة مثل شرط من يأت من القرشيين إلي رسول الله يرده إليهم. ومن يأتهم لا يردوه إلي الرسول. إلا أنها كانت خيراً وبركة علي الأمة الإسلامية ذلك أن من أتي من القرشيين لسيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم رده إليهم حسب الاتفاق فما كان من ذلك الشخص إلا أن تجمع مع أمثاله وكونوا جماعات فدائية تتصدي لقوافل قريش في الطريق بين الشام ومكة أحياناً أو تغير علي مكة أحياناً أخري استرداداً لما استولي عليه المكيون من أموال هؤلاء. حتي طلب القرشيون إلغاء هذا الشرط من الاتفاقية لمعاناتهم وخسارتهم من جراء تعرضهم لهجمات هؤلاء الذين ردهم رسول الله حسبما أراد المشركون في اتفاقهم. لم تصبر قريش وحلفاؤها في الحفاظ علي ما اتفقوا عليه في وثيقة الصلح. وارتكب حلفاؤهم أخطاء قاتلة كانت دافعاً للرسول وصحابته أن يتجهوا الي مكة فاتحين في عشرة آلاف جندي تزلزل قلب أبي سفيان- وكان مازال مشركاً- حين رأي النيران التي أوقدها الصحابة المرابطون علي رؤوس الجبال وفي الشعاب قرب مكة. وكان الفتح المبين الذي بشر به الله سبحانه وتعالي نبيه القائد الكريم. بذلك يتجلي فكر الرسول الحربي وتخطيطه المؤدي دائماً الي النصر. في الحديبية يبرز توجيه الرسول لأصحابه وحرصه علي إبداء رأيهم ومناقشته في كافة المسائل غير التعبدية. ولكنها تمس شئون الدنيا فيحث علي الاجتهاد وحرية الرأي حتي يصل الي قرار يراه الأصوب والمفيد. كما تبرز روح التضحية من الجنود المرافقين للرسول حين بايعه الجيش ويبلغ تعداده ألف وستمائة جندي ضد قريش كلها حين ظنوا ان المشركين في مكة أسروا عثمان بن عفان أو قتلوه. وكانت هذه البيعة تحت شجرة سميت الرضوان لرضاء الله علي المسلمين في مبايعتهم للرسول تحتها. جني المسلمون ثمرة هذا الاتفاق بعد وقت قصير ليتعدي سنتين. وقد كان كثير من المسلمين لا يرضون عن شروطه. ومنهم سيدنا عمر بن الخطاب الذي اعتبر هذا الاتفاق مهانة للمسلمين. ولكن أبا بكر رد عليه رداً لا يكون إلا من الصديق المحب. ولم يعاتب الرسول أحداً ممن كان يعارض هذه الاتفاقية تاركاً لكل رأيه وفكره واتجاهه. هذه كلمات عن حادثتين أنار الله بهما شهر ذي القعدة. أولهما في السنة الخامسة من الهجرة. وثانيتهما في السنة السادسة. أردنا ان نشير إليهما في عجالة تذكرنا بأيام رسول الله صلي الله عليه وسلم لنتعلم منها ونستفيد بها.