لاحظنا منذ زمن ليس بالقريب كثرة الحديث والكتابات التي تتناول الدَّعوة إلي تجديد الفقه الإسلامي والفتوي. حتي غدا هذا الحديث ظاهرة فكرية لم تلبث أن تطوَّرت لدي البعض. لتصبح دعوة إلي تجديد أصول الفقه. حتي يكون الفقه والفتوي والأصول التي تُبني عليها ملائمةً في نظر أصحاب هذه الدعوة لرُوح العصر. ويا ليت التجديد يقف في نظر هؤلاء عند حدِّ إعادة الفقه الإسلامي إلي حُضوره وفاعليته في الحياة. والعمل علي إزالة ما علِقَ به من صدأ أو غبار نتيجة الترك والإهمال. بحيث يرجع جديدًا. ولكن التجديد عند بعضهم مرادفى للتغيير والتبديل. والحذف والزيادة. إن حديث التجديد الذي رواه أبو داود. والطبراني في "الأوسط". والبيهقي في "المعرفة" وغيرهم. واتفق الحفاظ علي صحته. من رواية أبي هريرة رضي الله عنه. عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها". ليس فيه علي حدِّ فهمي دعوة إلي التجديد المذكور من قريبي أو بعيد. وإنما هو إخبار بأن الله تعالي قد تكفَّل للأمة بإرسال من يُعيد للدين بريقه وحيويته في حياة الناس إذا تغافلوا عنه. وإنما كان علي رأس كل مئة سنة» لذهاب العلماء فيه غالباً. واندراس السُّنن. وظهور البدع. فيحتاج حينئذي إلي تجديد. وهو لا يبرر فيما أري تطاول الأعناق لادعاء هذه المرتبة» دون العمل علي تحقيق هذا المعني. لقد كان من نتيجة الدعوة إلي التجديد المذكور صدور كثير من الفتاوي التي خرج فيها أصحابها عن أحكام الشريعة الغراء التي استقرَّ عليها عمل جمهور المسلمين في شتَّي أقطار الأرض من سالف العصور. هذا في مجال الفتوي. أما في مجال الدِّراسات الفقهية. فكانت أصداء دعوة التجديد أوسع وأرحب. ولقد رأينا كثيرًا من الكُتَّاب يُلِحُّون في كتاباتهم وأبحاثهم علي ضرورة التجديد. وفتح باب الاجتهاد الذي قال بإغلاقه "المذهبيون المتعصِّبون". زعموا! بَيْدَ أن المتأمِّل في هذه المؤلَّفات والفتاوي يُدرك لأوَّل النظر صدورها لا عن منهج علمي واضح المعالم. سليم البنيان. تنسجم فيه الفروع مع الأصول» لتكون الثمار الناتجة عن ذلك سليمة صحيحة. بل تري من يُبرهن علي فتواه بدليل جزئي أو كلي أو قاعدة أصولية» يكُرُّ علي ذلك الدليل ذاته بالإبطال والتزييف في فتوي أخري. ناسيًا أو مُتناسيًا تصحيحه له واستشهاده به من قبل. مما يدل علي أن صاحب هذا المنهج لا يتبع في الحكم ما أدَّاه إليه الدليل. ولكنه يضع الأحكام المُسْبَقة للمسائل. ثم يبحث لها عن أدلة. فما أيَّد الحكمَ الذي اختاره صحَّحه وأثبته. وما خالفه أبطله ونفاه. إن عملية التأليف الفقهي والفتوي لا بُدَّ لهما من ضابط يصون القائم بهما عن الشذوذ. وذلك الضابط هو المنهج المبني علي أسس صحيحة. الذي كان ولا يزال موجودًا منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها. وهو منهج فَرَضته طبيعة النصوص الشرعية. وطبيعة اللسان العربي الذي جاءت به. والقواعد العقلية الفِطرية التي لا يختلف عليها اثنان. وهو المنهج المتمثِّل في علم أصول الفقه. الذي صيغت قواعده بأسلوب غاية في الدِّقَّة والإحكام. بأيدي الجهابذة من رجال المدارس الفقهية الأربعة التي كتب الله تعالي لها البقاء. والتي اندرج فيها مذاهب الصحابة والتابعين ومَن بعدهم ومناهجُهم في النظر. إن غياب كثير من الحقائق العلمية المتعلقة بميدان الاجتهاد والفتوي. مع تَشَوُّه جملة أخري من هذه الحقائق خاصَّة في عصرنا أدَّي بأصحاب مسلك التجديد المذكور إلي الوقوع في سلسلة من المزالق العلمية. والخروج بأقوال وآراء جديدة. لا تبعُد في وصفها عما يُسَمَّي لدي الفقهاء بالأقوال الشاذة والمهجورة. إن لم تكن أكثر من تلك الأقوال غرابةً وشذوذًا. لقد وُجِد مِن علماء المسلمين مَن يرُدُّ علي هؤلاء فتاواهم الغريبة وأقوالهم الشاذة. إلا أنهم ركزوا في الردود علي مسائل بعينها. أما رأس الداء الذي هو غياب المنهج المنضبط في تناول الفقه والفتوي. والذي يعد المنبع الأصيل لهذه الشذوذات فقلَّ مَن انتبه لإلقاء الضوء علي خطورته. وهو ما يجعل من الأهمية بمكان توضيح الحقائق وتصحيح المفاهيم المتعلِّقة بهذا المجال» ليكون الداخل فيه علي بصيرة من أمره. ويعرف الكلام المقبول من غيره.