هناك حقيقة كونية وسنة إلهية عبَّر عنها القرآن الكريم بعبارة موجزة بليغة صارت مثلاً رائعًا لكل ذي عقل سوي. ذلك أن رسالة النبي محمد صلي الله عليه وسلم كانت زلزالاً لكل ما استقر في أذهان العالم من خرافات وظلم وفساد وكفر وإلحاد وإنكار للبعث والحساب فكانت بذلك نبأ عظيمًا تناوشته ألسنة الباطل وسيوف الغدر والخيانة. واتهامات المنتفعين من أوضاع الفساد فاستهزءوا به وسخروا منه وحاربوه وصمد النبي صلي الله عليه وسلم وصبر موقنًا بوعد الله وبقدرته التي عبرت عنها الآيتان السابقتان لهذه الحقيقة. حيث قال سبحانه: "قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَي أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضي انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلي لِكُلِّ نَبَإي مُسْتَقَرّى وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ" "الأنعام:65-67". وبهذه الآيات الكريمة يطمئن المولي جل علاه نبيه وكل المصلحين بأنه القادر علي عقاب المستهزئين برجز من السماء أو بخسف من الأرض أو بحدوث انقسام واحتراب يذوق فيه كل فريق بأس الآخر كما قال: "وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضي فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا" "الفرقان:20". وفي هذا الصدد يشير القرآن الكريم إلي سبب حدوث هذا متمثلاً في مخالفة نهج النبي صلي الله عليه وسلم وأمره فيقول: "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةى أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابى أَلِيمى" "النور:63" ويؤكد الله للنبي صلي الله عليه وسلم أن ما معه هو الحق وأنه سينتصر لا محالة وسوف يندم المكذبون علي انحيازهم للباطل "وَيَوْمَئِذي يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" "الروم:4.5"» ذلك أن الحق مهما حاول المبطلون أن يزحزحوه فهو راسخ رسوخ الجبال "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ". فالحق كلمة أطلقها القرآن الكريم اسمًا من أسماء الله الحسني فقال: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ" "الحج:6". ووصفًا لما أنزله علي نبيه محمد صلي الله عليه وسلم فقال: "تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ" "الرعد:1". الله إذن هو الحق وقد خلق السماوات والأرض بالحق وأنزل كتابه بالحق وشهد لرسوله أنه علي الحق وأخبرنا بأن البعث والحساب حق وبأن وعد الله بنصر المؤمنين حق وقدرة الله علي عقاب الظلمة حق فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ غير أن أهل الحق مطالبون أن يصبروا كما صبر أولو العزم من الرسل وأن يثقوا في موعود الله وإن تأخر ليميز الله الخبيث من الطيب قال سبحانه: "وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلى مِن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَي مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّي أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ" "الأنعام:34". وهذا ما حدث للمرسلين: 1- لقد استهزأ قوم نوح به حين كان يصنع الفلك "وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأى مِن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابى يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابى مُقِيمى" "هود:38.39". فحقق الله له النجاة وأغرق الكافرين. 2- ووقف موسي ومن معه أمام البحر وخلفهم جيش فرعون فقال أصحاب موسي: "إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ" "الشعراء:61.62". وانفلق البحر وأغرق فرعون وجنوده. 3- ورد النبي محمد صلي الله عليه وسلم علي أبي بكر وهما في الغار حين قال له: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا فقال له: ¢ما ظنك باثنين الله ثالثهما¢ "لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودي لَّمْ تَرَوْهَا" "التوبة:40". 4- ولم يكن هذا خاصًا بالأنبياء فحسب فهذا أبو بكر يصدِّق النبي صلي الله عليه وسلم في خبر الإسراء بالرغم من غرابته وقال لقريش: ¢إن كان قال فقد صدق¢. 5- وعند وفاة النبي صلي الله عليه وسلم واضطراب القوم من أثر الصدمة وقف الصديق قائلاً: "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". 6- ووقف الصديق أمام المرتدين ومانعي الزكاة قائلاً: "لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه" فأنقذ الله بموقفه الأمة. 7- وهؤلاء سحرة فرعون- الذين كانوا يطلبون الأجر من فرعون ويقسمون بعزته- حين رأوا المعجزة خروا ساجدين ولم يأبهوا بتهديد فرعون حين قال: "لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافي وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ" "الأعراف:124". هكذا حينما يتعمق الإيمان بالله ويصل هذا الإيمان لدرجة اليقين وتتطهر القلوب من شوائب المنافع الشخصية ويعلم الله ما في هذه القلوب ينزل رحمته ونصره كما حدث مع أصحاب الشجرة في يوم الحديبية وقال رب العزة عنهم: "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" "الفتح:18". ويوم تتخلص النفوس من الأهواء ويثقون في رب الأرض والسماوات ويؤمنون بما أنزل من آيات يتحقق وعد الله بالتمكين لهذا الدين "إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِيني" "ص:87.88".