من المعلوم أن الإيمان هو التصديق. والعقيدة تمثل الأساس المتين الذي يستقر في قلب المؤمن استقرارًا يلازمه. ولا ينفك عنه بحال من الأحوال. والعقيدة التي تستقر في القلب إن لم يكن لها وجود في عالم الواقع أضحت عبارة عن نظرية بدون تطبيق ولا برهان. أو مجرد معرفة وفقط. وما قيمة هذه المعرفة التي يستعلي صاحبها عن الإقرار بها. والخضوع لحكمها أو السير علي منهجها؟ ونحن نعلم أن إبليس كان يعرف الحقائق الكبري. يعرف الله. ويعرف الأنبياء. ويعرف الكتب التي أنزلها الله تعالي علي رسله ولكنه- مع هذا كله- أعلن في جرأة وغطرسة أنه سوف يحارب هذا الحق الذي يعرفه. ومن هنا كانت معرفته للحقائق لا قيمة لها ولا وزن. وصدق من قال: لو كان للعلم فضل دون تزكية لكان أفضل خلق الله إبليس ونحن قد ابتلينا في زماننا هذا بمن يتحدث في قضايا الدين ويسخِّر لسانه للتطاول والهجوم الشرس علي من يكبره سنًا ويفوقه علما "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتي وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرى" "المجادلة:11" "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمي عَلِيمى" "يوسف:76" لقد انحدر بعض الناس إلي هذا المنحني من باب المعني الخاطئ للحرية. الذي فهم خطأ من البعض للأسف الشديد بعد أن حدث ما حدث في البلاد. وبهذا المسلك الشائن انتزع الحياء انتزاعا من المجتمع إلا ما رحم ربي. ومعني انتزاع الحياء من المجتمع هبوط مفاجئ في منسوب الإيمان ذلك أن الإيمان هو حامي الحمي من الوقوع في الرذائل والدنايا. وهو في نفس الوقت القوة الدافعة لمكارم الأخلاق ومن أبرز هذه المكارم خلق الحياء. والذي هو أبرز الصفات الحميدة التي تسمو بالإنسان وترقي به إلي أعلي الدرجات. ولا غرو حين نجد رسول الله صلي الله عليه وسلم يربط الحياء بالإيمان. ففي الحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "الحياء والإيمان قرناء جميعًا. فإذا رفع أحدهما رفع الآخر" رواه الحاكم. وعنه أيضًا أن رسول الله صلي الله عليه وسلم مرَّ علي رجل من الأنصار. وهو يعظ أخاه في الحياء. حتي كأنه يقول له: "قد أضرِّبك" أي الحياء. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم "دعه فإن الحياء من الإيمان" رواه البخاري ولا نعجب حين نجد أن رسول الله يحدثنا عن شعب الإيمان بصفة عامة. ثم يخص الحياء بالذكر بصفة خاصة. فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة. أفضلها قول لا إله إلا الله. وأدناها إماطة الأذي عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان" رواه البخاري. ذلك أن الحياء خلق يحمي صاحبه- دائمًا- من ارتكاب المعاصي. إنه حييّى يخاف الفضيحة في الدنيا والآخرة. لا يكذب ولا يخون. ولا يغش. ولا يفتخر. ولا يتباهي. إن الحياء يمنعه من ذلك كله. إنه الحارس والواقي من فعل المحرمات علي حد قول القائل: إذا خلوتَ الدهر يومًا فلا تقل خلوتُ ولكن قل عليّ رقي ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب من هنا تعلم أن الحياء هو الباعث الحقيقي علي مكارم الأخلاق. وهو الحاجز للمرء عن القبائح والدنايا وسفاسف الأمور. فصار عديم الحياء كعديم الإيمان مصداقا لقوله صلي الله عليه وسلم: "الحياء من الإيمان. والإيمان من الجنة. والبذاء من الجفاء. والجفاء من النار" رواه أحمد فجعل البذاء في مقابل الحياء. والبذاء هو السفاهة والفحش في القول والوقاحة فيه. وهذا البذاء إنما يستوجب الجفاء وهو الطرد والإعراض. فالجفاء في النار قال الشاعر: إذا قل ماء الوجه قل حياؤه فلا خير في وجه إذا قل ماؤه حياءك فاحفظه عليك فإنم يدل علي وجه الكريم حياؤه خُلق يحبه الله تعالي: أجل: إن الحق سبحانه وتعالي يحب هذا الخُلق الكريم من عباده يحب سبحانه الحياء» لأنه حييّ ستير. يحب الحياء والستر. وهو جل في علاه مع كماله المطلق وغناه عن خلقه يستحي من هتك العاصي وفضيحته. يستره ويعفو عنه. ويغفر له. جاء في الحديث عن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "إن الله حييّ كريم. يستحي إذا رفع الرجل يديه أن يردهما صفرًا خائبتين" رواه الترمذي. وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "إن الله عز وجل يستحيي من ذي الشيبة المسلم. إذا كان مُسّدِّدًا كرومًا للسنة أن يسأل الله فلا يعطيه" رواه الطبراني. يقول الإمام ابن القيم: "وأما حياء الرب تعالي من عبده. فذاك نوع آخر. لا تدركه الأفهام. ولا تكيفه العقول. فإنه حياء كرم وبر وجُود وجلال. فإنه تبارك وتعالي حييّ كريم. يستحيي من عبده. إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرًا. ويستحيي أن يعذب ذا شيبة في الإسلام" وما أروع قول يحيي بن معاذ: ¢سبحان من يذنب عبده. ويستحيي هو. ومن استحيا من الله مطيعًا استحيا الله منه وهو مذنب¢. والمتأمل في هذا الكلام يجد مدي العلاقة الوطيدة بين خُلق الحياء والخوف من الله- عز وجل- والذي هو من أجل منازل السائرين إلي الله. ولاشك أن الخوف من الله تعالي يبعث علي العمل الصالح والإخلاص فيه. فلا يشغله مال ولا تجارة ولا إغراء دنيوي: "رِجَالى لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةى وَلا بَيْعى عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ" "النور:37". والخوف من الله هو الذي يجعل الإنسان المؤمن في ظل الله يوم القيامة. فقد ورد في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله" رواه البخاري. لقد كان حياؤه سببًا في خوفه من الله. وهذا الخوف هو الذي منعه من ارتكاب ما حرم الله. فكان الجزاء يوم القيامة أن يظل في ظل العرش يوم تدنو الشمس من رءوس الخلائق فيغرق الناس في العرق. لقد روي أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان يبكي. ويبكي حتي تغلبه عيناه. ثم ينام. ثم يقوم ويبكي وتسأله زوجته أن يعطيها لأنه خليفة المسلمين. فيقول لها: "إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمي عَظِيمي" "الأنعام:15" فتبكي زوجته فاطمة وتقول: ¢اللهم أعذه من النار¢.