مشاعر الإنسانية تجاه البشرية تبدو واضحة مع المسلم ومع غيره بل ومع الحيوان والحجر. فأما مع المسلم فهذا أنس بن مالك يقول: "خدمت النبي صلي الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفي قط. وما قال لشيء صنعته لم صنعته؟ ولا لشيء تركته لم تركته؟" وهذه وصاياه للرجال علي النساء "استوصوا بالنساء خيرا". "رواه الشيخان". "ما أكرم النساء إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم" "رواه أحمد" "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" "رواه الترمذي". وهذا منهجه المتفرد في ربط الإيمان بمشاعر الحب للآخرين: "لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحبه لنفسه". وأما مع غير المسلم فها هو ذا يتلو ويبلغ قول ربه: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَري وَأُنثَي وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" "الحجرات:13" ولابد لهذا التعارف من مبادرة المسلم لتحقيق العدل والبر مع من يسالم ويتعايش ويتعاون قال تعالي: "لا يَنْهَاكُم اللَّهُ عَن الَّذِينَ لَم يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَم يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُم أَن تَبَرُّوهُم وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" "الممتحنة:8" وقد وفي رسول الله بكل ما طلبه ربه في هذا المجال فحافظ علي عهده مع اليهود في المدينة ومع نصاري نجران وكان ينادي في المسلمين: "ألا من قتل نفسا معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا" "رواه الترمذي وقال حسن صحيح". وهو في الحرب ينهي أن يُجهَز علي جريح وأن تُقتل امرأة أو صبيّ أو راهب أو مُدبر. ويدخل مكة منتصرا فيقول: "اليوم يوم المرحمة اليوم يعز الله قريشا" ويعفو عن أعدائه قائلا: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" ويعامل الأسري بكل العطف والرعاية استجابة لقول الحق تبارك وتعالي: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِمَن فِي أَيْدِيكُم مِن الأَسْرَي إِن يَعْلَم اللَّهُ فِي قُلُوبِكُم خَيْراً يُؤْتِكُم خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُم وَيَغْفِر لَكُم وَاللَّهُ غَفُورى رَحِيمى" "الأنفال:70" وفي وصف المحسنين يقول: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَي حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً" "الإنسان:8". وأما مع الحيوان فيكفي أن نشير إلي إخباره عن المرأة التي حبست هرة لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض فدخلت فيها النار. وعن الرجل الذي سقي كلبا يلهث من العطش فدخل بذلك الجنة. وأما مع الجماد. فكان يقول عن جبل أحد: "أحد جبل يحبنا ونحبه". هل بعد ذلك كله يتطاول علي هذه القمة الشاهقة أولئك الأقزام محاولين أن ينسبوا إلي أطهر خلق الله أنه أخطأ كثيرا بدليل أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. حقيقة ما نسب إلي الرسل من أخطاء إن هؤلاء الحمقي لا يمكن أن يتصوروا المستوي الراقي الذي تعامل به الأنبياء مع ربهم. إنهم دائما يشعرون بالتقصير حتي لو كانوا في طاعة ربهم. فهذا إبراهيم الخليل وهو يبني الكعبة يقول: "رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُب عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" "البقرة:127.128" فأي ذنب ارتكبه إبراهيم وهو يبني بيت الله حتي يطلب منه التوبة؟! وهذا سيدنا نوح يقول: "رَبِّ اغْفِر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً" "نوح:28" وهو قد مكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما! وهذا يوسف الصديق الذي تحمل في حياته من الأذي والسجن والاغتراب وحافظ علي شرفه وعفته يقول: "تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" "يوسف:101". وهذا موسي كليم الله يقول: "إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِر لِي" "القصص:16". وهذا داود النبي الملك يخبر عنه ربه: "فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ" "ص:24". أنَّي لهؤلاء أن يدركوا أن كل آيات العتاب لنبينا ما هي إلا رفعة لقدره من حيث إنه كان شديد الحرص علي هداية قومه لدرجة أن يخاطبه ربه: "مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَي" "طه:2" "إِن تَحْرِص عَلَي هُدَاهُم فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلُّ" "النحل:37" ولهذا عبس في وجه الأعمي طمعا في هداية الملأ. ولهذا فضّل فداء الأسري علي قتلهم في بدر. ولهذا أيضًا رفض أن يطبق الله الجبلين علي قريش. قائلا: "أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده وحده لا شريك له". وحقق الله رجاءه وخرج من أصلاب المشركين والمنافقين من نشر النور في العالمين من أمثال خالد بن الوليد. وعكرمة بن أبي جهل. وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول. وبهذا وغيره يزرع المصطفي صلي الله عليه وسلم في أعماق الدعاة روح الأمل والصبر والإخبات والتبتل واستصحاب معية الله مهما كانت العقبات والفتن.. فهذا نداء الله للمؤمنين: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُفْلِحُونَ" "آل عمران:200". كيف نحيي ذكراه؟ هذا هو رسول الله صلي الله عليه وسلم. وهذه مكانته. وهذه شريعته. وهذا سبيله.. فمن كان ممن يدعي حبه فليترجمه إلي علم وليشحذ همته للسير علي دربه ونشر هديه ورسم الحياة الجديدة علي نهجه» حرصا علي مصلحة الأمة. وإدراكا لخطورة المرحلة وحفاظا علي مقدرات الوطن. وحكمة في التدرج لتغيير المنكر. ولطفًا في التعامل مع الآخر. ورفضا للغلظة والعجلة في الوصول إلي الهدف. وسعيًا جادّا لنشر فضائل السماحة والنخوة والنجدة والشهامة والعزة والكرامة والصدق والأمانة.فهذه أخلاق نبيكم تلك التي كانت خير وسيلة للإصلاح والتغيير في أسرع فترة عرفها التاريخ.