لم يؤت حفظ حروف العلم كما قال النبي " في الحديث المتفق عليه: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها". فقد يكون الرجل حافظاً لحروف القرآن وسوره. ولا يكون مؤمناً بل يكون منافقاً. فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه. وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما ينتفع بالريحان. وأما الذي أوتي العلم والإيمان فهو مؤمن عليم فهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مثل اشتراكهما في الإيمان. فهذا أصل تجب معرفته. وههنا "أصل آخر" وهو: أنه ليس كل عمل أورث كشوفاً أو تصرفاً في الكون يكون أفضل من العمل الذي لا يورث كشفاً وتصرفاً. فإن الكشف والتصرف إن لم يكن مما يستعان به علي دين الله وإلا كان من متاع الحياة الدنيا. وقد يحصل ذلك للكفار من المشركين وأهل الكتاب. وإن لم يصل لأهل الإيمان الذين هم أهل الجنة. وأولئك أصحاب النار. ففضائل الأعمال ودرجاتها لا تتلقي من مثل هذا. وإنما تتلقي من دلالة الكتاب والسنة. ولهذا كان كثير من الأعمال يحصل لصاحبه في الدنيا رئاسة ومال. فأكرم الخلق عند الله أتقاهم. ومن عبد الله بغير علم فقد أفسد أكثر مما يصلح. وإن حصل له كشف وتصرف. وإن اقتدي به خلق كثير من العامة. وقد بسطنا الكلام في هذا الباب في مواضعه. فهذا "أصل ثان". و"أصل ثالث" إن تفضيل العمل علي العمل قد يكون مطلقاً مثل تفضيل أصل الدين علي فرعه وقد يكون مقيداً. فقد يكون أحد العملين في حق زيد أفضل من الآخر. والآخر في حق عمرو أفضل. وقد يكونان متماثلين في حق الشخص. وقد يكون المفضول في وقت أفضل من الفاضل. وقد يكون المفضول في حق من يقدر عليه وينتفع به أفضل من الفاضل في حق من ليس كذلك. مثال ذلك أن قراءة القرآن أفضل من مجرد الذكر بسنة رسول الله " وإجماع الأمة- ولا اعتبار بمن يخالف ذلك من جهال العباد- ثم الركوع والسجود ينهي فيه عن قراءة القرآن. ويؤمر فيه بالذكر. وكذلك الذكر والدعاء في الطواف وعرفة ونحوهما أفضل من قراءة القرآن. وكذلك الأذكار المشروعة مثل ما يقال عند سماع النداء ودخول المسجد والمنزل والخروج منهما. وعند سماع الديكة والحمر ونحو ذلك أفضل من قراءة القرآن في هذا الموطن. وأيضاً فأكثر السالكين إذا قرأوا القرآن لا يفهمونه. وهم بعد لم يذوقوا حلاوة الإيمان الذي يزيدهم بها القرآن إيماناً. فإذا أقبلوا علي الذكر أعطاهم الذكر من الإيمان ما يجدون حلاوته ولذته. فيكون الذكر أنفع لهم حينئذ من قراءة لا يفهمونها. ولا معهم من الإيمان ما يزداد بقراءة القرآن. أما إذا أوتي الرجل الإيمان فالقرآن يزيده من الإيمان ما لا يحصل بمجرد الذكر. فهذا "أصل ثالث". و"أصل رابع" وهو: أن الرجل قد يأتي بالعمل الفاضل من غير مقام بشروطه. ولا إخلاص فيه. فيكون بتفويت شرائطه دون من أتي بالمفضول المكمل. فهذه الأصول ونحوها تبين جواب هذا السائل. وإن كان تفصيل ذلك لا تتسع له الورقة. والله أعلم. الأبدال والأقطاب والنجباء: 9- وذكر أيضاً في "مجموع الفتاوي" الجزء الحادي عشر ص "433": "سئل عن الحديث المروي في "الأبدال" هل هو صحيح أم مقطوع؟ وهل "الأبدال" مخصوص بالشام أم حيث تكون شعائر الإسلام قائمة بالكتاب والسنة يكون بها الأبدال بالشام وغيره من الأقاليم؟ وهل صحيح أن الولي يكون قاعداً في جماعة ويغيب جسده؟ وما قول السادة العلماء في هذه الأسماء التي تسمي بها أقوام من المنسوبين إلي الدين والفضيلة. ويقولون: هذا غوث الأغواث وهذا قطب الأقطاب وهذا قطب العالم وهذا القطب الكبير وهذا خاتم الأولياء؟. فأجاب: أما الأسماء الدائرة علي ألسنة كثير من النساك والعامة مثل "الغوث" الذي بمكة و"الأوتاد الأربعة" و"الأقطاب السبعة" و"الأبدال الأربعين" و"النجباء الثلاثمائة" فهذه أسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالي. ولا هي أيضاً مأثورة عن النبي " بإسناد صحيح ولا ضعيف يحمل "عليه" ألفاظ الأبدال. فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب " مرفوعاً إلي النبي " أنه قال: "إن فيهم يعني أهل الشام الأبدال الأربعين رجلا. كلما مات رجل أبدل الله تعالي مكانه رجلا". ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف كما هي علي هذا الترتيب. ولا هي مأثورة علي هذا الترتيب والمعاني عن المشايخ المقبولين عند الأمة قبولا عاماً.