انتقل القائد الباسل إلي فلسطين فقاوم الفجرة من الفرنجة مقاومة رهيبة. وأمن الطريق للحجاج من الشراذم العابشة. ورجع إلي القاهرة تسبقه أنباء بطولته. وأخذ يتفرغ للإصلاح الداخلي بهمة دائبة. وعزم نشيط. فشيد دور العلم. وعمر مساجد العبادة. وأقام مدرستين لتدريس المذهب السني. ولم يكن ذا رغبة ملحقة في القضاء السريع علي المذهب الشيعي. مراعاة لبعض الظروف واستمالة لكثير من القول. ولكن نور الدين وهو رئيسه الأول قد كتب إليه في ذلك متعجلاً ملحاً. فخاف أن يتباطا تباطؤاً تسوء عاقبته لدي نور الدين فدعا للخليفة العباسي علي المنابر. وطفق الدعاة ينشرون عقائد أهل السنة.. وقد شاء الموت أن يختار العاضد في هذا الظرف المحرج. فسقطت بموته الدولة الفاطمية دون أن يتعجلها صلاح الدين بضربة حاسمة. وسارت الريح رخاء تبشر بالحظوة والإقبال.. أخذ الوزير في إقامة الخطوط الدفاعية عن مصر. وطفق يقارن العاصمة بحواضر الشام. فلم يجد لها قلعة يعتصم بها الجيش في ساعة الخطر. بل كانت أبواب القاهرة مفتحة تدعو الغازي إلي احتلالها دون عرقلة وتعويق. فشيد القلعة الحصينة التي تشتهر باسمه إلي الآن. وأقام سوراً كبيراً يشمل الفسطاط والعسكر والقطائع والقاهرة المعزية. وبذل في ذلك جهداً يعتصر القوة ويشرد الراحة والاطمئنان. وليته تفرغ لرسالته العمرانية دون ما ضجة وانزعاج. فقد انتبه ذات يوم علي مؤامرة سياسية للعصف بالدولة الأيوبية واسترجاع الدولة الفاطمية بمعاونة الخونة ومكاتبة الفرنجة.. فأراد أن يلقي درساً بليغاً علي العصاة من المؤتمرين. فشنق رءوس المكيدة وأعوان الخيانة وضرب بهم المثل الأليم لمن تحدثه نفسه بزلزلة مخيفة تعصف بالأمن الهادئ. وتستعيد الشقاء البائد في ركب الوصوليين.. وقد ألف الكتاب أن يتحدثوا عن موقف صلاح الدين من سيده نور الدين حديثاً لا يخلو من مبالغة وتهويل. ونحن لا نبرئ صلاحاً من هيامه بمصر. وعمله علي الاستقلال بها. فهو قائد طامح يحلم بالمجد والنفوذ. ولكننا نؤكد أن البطل الأيوبي لم يستطع أن يجابه سيده نور الدين بكلمة مؤذية أو رد غير مهذب. بل ظل يدين له بالخضوع والولاء. وقد شاء الله أن ينقذ العالم الإسلامي من شقاق مدمر تنفجر قذائفه بين البطلين العظيمين. فاختار لنور الدين جنته ورضوانه. ووجد صلاح الدين الميدان خالياً بعد سيده العظيم. فحمل رايته. وسار في سبيله إلي أقصي الطريق. ونحن حين نقارن بين الرجلين العظيمين نعترف أن نور الدين كان قديساً مثالياً لا يتعلق بأضواء الجد. وبوارق العظمة. ولكن صلاحاً كان بطلاً واقعياً له أحلامه وآماله. ولديه هواتف حارة تجذبه نحو الأضواء والبوارق. فإذا ارتقي نور الدين مستوي المثاليين في أوج الملائكة فقد رفرف صلاح علي هامات البشر دون أن يسف إلي سفح منحدر. أو يقع في هاوية بهماء. هذا الفارق بين الرجلين يفسر سياسة كليهما في معاملة الأمراء والأتباع. فنور الدين لا يحرص علي ضم مدينة إسلامية إلي مملكته. وإذا رأي من حاكم إسلامي مراوغة في حق أو جنوحاً إلي باطل طوي الضلوع علي حسرة كظيمة دون أن يجرد لذلك وحدة سيفاً باتراً أو يسفك دماً فائراً. أمام صلاح الدين فقد جعل من همه استئصال كل مراوغ. ومصارعة كل محتال. كما وحد جميع مدن الشام ومصر تحت قيادته ليقف المسلمون صفاً واحداً من خلفه. وقد عادت سياسته هذه بكثير من الفوز والنجاح. ولو دقق الباحث في فه محاولاته السياسية في الوحدة الإسلامية لرأي له عذراً يذكر فيحمد. ومجهوداً شاقاً قام به في تضحية واستبسال. لقد انتفضت مدن الشام انتفاضة مرتجفة بعد موت نور الدين. إذ ترك الراحل العزيز نجلاً صغيراً لا يثبت للزعازع. فطمع الطامعون في ملكه. واستقل كل حاكم ببلده. وقامت فتن وثورات داخلية بين أمراء المسلمين كل يحاول أن يزيد في رقعته. ويفسح في مملكته. مصطعناً أحط أساليب الوقيعة والاستهتار. والفرنجة من الصليبيين يصفقون للخلاف المشتجر. والنزاع المشتبك. ويرون في ذلك حرباً تدور علي المسلمين. فتعصف يريحهم وتمزق قوتهم. دون أن يراق فيها دم صليبي. بل إن بعض الخونة من الأمواء قدد حالف الفرنجة واتخذ من صاحب بيت المقدس ظهيراً يأوي إليه في الشدة. ويدفع الجزية الصاغرة كي يحمي عرشه بسيوف الأعداء. واضطر آخرون من الخونة أن يحالفوا مليكاً صليبياً آخر أفزع صلاح الدين وضايقه. فأخذ يراقب الحوادث في ثورة لا تهدأ ووسواس لاينقطع حتي إذا جاءه كتاب بعض الأمراء يستعين بحوله وقوته انتهز البادرة اللائحة وجمع قوته المرفورة وخف إلي بلاد الشام يتدارك الفيضان المدمر. فيقيم علي سواحله الشواطئ المنيعة قبل أن يفيض فلا يدع من شئ إلا أتي عليه.