النشأة المباركة لصلاح الدين تجد من ينكرها من مغرضي المؤرخين فيزعمون أن سيرة صلاح الدين الأولي لا تعرف علي وجه التحديد. ويذهبون إلي تضعيف الروايات المتواترة. وتحقير الأسانيد المتتابعة. فلنترك معهم الروايات والأسانيد جانباً. ولنقل إنه ابن بطل حربي وجليس أمير عظيم. وربيب وطن محارب يزحمه الأعداء ويتربص به المتربصون أفلا تكون هذه البيئة وحدها كافية لانبعاث همته واتقاد طموحه. فيكون في نشأته الأولي ملتهب الغيرة. متأجج الحماسة؟! وهل يعقل أن تكون خواتيمه الرائعة نتيجة بدون مقدمة. وغاية بغير سبيل؟! إنك في دنيا الأدب تحكم علي شاعر بالإبداع لقصيدة فذة يقولها قوية رائعة فتتأكد أنها وليدة ثقافة عريضة وعاطفة متأججة. أفلا تحكم في دنيا السياسة علي بطل فذ قد تعددت غزواته وبهرت فتوحه بأنه لقن أعمال الحرب في نشأته. وشاب علي ما شب عليه من هيام بالفتوح والانتصار. لقد صمم أسد الدين علي أن يصحبه معه في غزواته الثلاث إلي مصر. ولو لم يقدر قائد الحملة في صلاح الدين بطولته الرائعة ما صمم علي اصطحابه. وفي مصر العزيزة كان أول مجد يسجله صلاح الدين ويدونه التاريخ تدويناً لا تناله الأراجيف. فقد استطاع في الغزوة الأولي أن يبث روح الحمية في بلبيس. فيضمن النصر لجيش يحاربه العدو ويجانبه الصديق. أما في الحملة الثانية فقد صار قائداً معلماً يسير علي رأس كتيبة مرموقة. وينفرد بالمحاصرة والهجوم. وقد اعتمد عليه أسد الدين في غزوة الإسكندرية فتقدم إليها ظافراً. وأقام الحصون والقلاع. وثبت بها في رهبة الحصار. وقلة الذخيرة. ونفاد القوت حتي استطاع أن ينجو من مأزق يتعثر به المهرة من القواد. فكسب قلوب أبناء الثغر. وكانوا له فيما بعد جنة سابغة. ودرعاً واقية لا تقدها الرماح! مضت الحملتان الأوليان وجاءت الحملة الثالثة ليستقر أصحابها نهائياً في مصر.. ذلك ما عزم عليه نور الدين حين رأي الفرنجة يحتلون ديار الإسلام في وادي النيل. ويجدون من خونة الوزراء من يفتح لهم الطريق. ويمدهم بخيرات مصر وزروعها وتجارتها وذهبها! وأي مطمع لملك الفرنجة أكثر من أن يجد مصري قبضة يده تمنحه الخصب والأمن فتطعمه من جوع. وتدفئه من برد. وأية حسرة تعتصر قلب نور الدين حينما يجد أعداء الإسلام يحاربونه بأسلحة مصرية. ويقومون علي قتاله بخيرات تتساقط بها حقول النيل! لابد من تملك مصر تملكاً يعصمها من الصغار والهوان. ومن لها غير أسد الدين ونجم الدين وصلاح.. أولئك القادة الغر من بني أيوب الذين أشربوا روح التضحية والفداء. وهم بعد أولو خبرة بمصر ودراية تامة بمدنها وحصونها. بل إن بينهم وبين المصريين من وشائج الحب والإخلاص ما لا يقدر علي فصمه خليفة وصولي أو وزير خائن!! ليذهب أسد الدين ثالثة إلي مصر وليجعل صلاحاً مستشاره الأول وليتقربا معاً إلي شعب مسلم أعزل يبادلهم عواطف الحب والإخلاص. ولتندحر الجيوش الصليبية مقهورة ذليلة تاركة عملاءها من الخونة يعضون بنان الندم آسفين خاسئين. لقد ملك أسد الدين الزمام. ومال إلي التسامح فعفا عما سلف من الغدر والعقوق. ولكن "شاور" الخائن لا يهدأ له بال. فهو يتآمر علي جنود الإسلام من جديد مكاتباً أتباعه من الفرنجة. بل يذهب في الخيانة إلي أبعد مدي يتصوره إنسان. فيدبر مكيدة لاغتيال أسد الدين وابن أخيه. والله أرأف بمصر والإسلام من أن يتحكم فيها خائن أثيم. فقد شاء الله أن تكشف المؤامرة الخاسئة. وأن يأخذ صلاح الأهبة فيزحف علي عدوه الآثم مكبلاً يده ورجله ثم يسوقه إلي الخليفة الفاطمي فيصدر أمره بقتله وترتاح الكنانة من أفعي خاتلة تنفث السموم القاتلة دون ضمير يؤنب! لقد تمكن صلاح من خصمه الألد فانقشع ظلامه عن الوادي لتأتلق بعد شمس أسد الدين في أفق الوزارة. وليتسلم القوس باريها الحصيف. ثم ماذا؟ لقد اتهم بعض المغرضين صلاحاً إذ ائتمر بشاور. وهم يعلمون أن من انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. ولكن الغرض يعمي صاحبه فيدافع عن مجرم آثم تنكر له ذووه. وتبرأ منه نجله الكامل شجاع بن شاور. فأعلن علي الملأ خيانة أبيه. ووشي إلي صلاح بما يدبر من دسيسة واغتيال. فكان النجل الطاهر مثال الإنسانية الرفيعة في أقدس معارجها الشماء. وحمل له التاريخ نفحة عبقة تهب نسائمها معطرة بالرحمة والرضوان. أولئك قوم كتب في قلوبهم الإيمان.. يألله.. كم في صحائف التاريخ من غرائب خارقات؟!