مبدأ الهداية بالقوة ليس إرادة إلهية ولا سلوكاً نبوياً ولا تراثاً تركه لنا السلف الصالح ولا طائل منه .. إلا إذا كان الأمر يتعلق بالتعلل خدمةً لغرض ما ربما كان أشهر أمراضنا الاجتماعية.. ربما كان أسوأ عاداتنا الشخصية.. أن ننتقد غيرنا ونقتنع بأنفسنا.. أن نستهلك وقتنا وجهدنا وأعصابنا في متابعة ما يجري للآخرين.. بينما نحن في حاجة إلي كل دقيقة نضيعها في ذلك.. إن بيوتنا من زجاج.. ورغم ذلك نُصِرّ علي أن نلقي الناس بالحجارة. تجد شخصاً بديناً مترهلاً يكاد لا يلتقط أنفاسه ينصحك بفوائد الرشاقة وأهمية الرجيم.. تجد شخصاً جاهلاً سعيداً بظلام عدم المعرفة يفرط في شرح أهمية العلم وضرورة اللحاق بركبه.. تجد شخصاً فاسداً كسولاً لا يمل من الحديث عن النزاهة والشرف وقيمة العمل.. وفي كل هذه الأحوال وغيرها لا أنت ستسمع منه ولا هو سيفعل شيئاً.. هنا تأتي قيمة الآية الكريمة: ¢ إن الله لا يُغيّر ما بقوم حتي يُغيّروا ما بأنفسهم ¢ الذي يدعو إلي التغيير يبدأ بنفسه.. السمين يغيّر من عاداته الغذائية.. قبل أن يفرط في الحديث عن الرشاقة.. الكذاب يغير من عاداته النفسية.. يكف عن الكذب.. قبل أن يُحث الناس علي الصدق.. المصاب بالسكر يغيّر من نوعية طعامه.. قبل أن يتكلم عن أضرار السكر علي تصلب الشرايين وأمراض القلب.. المصاب بالبلهارسيا يغير من طريقته في الاستحمام.. قبل أن ينصح الناس بالابتعاد عن الترع والبرك. لقد أعطانا الله الشئ وضده.. وهدانا النجدين "سبيل الخير وسبيل الشر" فإذا أصابنا من الشر شيئاً فإن تغييره يكون بتغيير ما أدي إليه.. لا ننزل ترعة حتي لا نصاب بالبلهارسيا.. فالله لن يغير ما بنا من بلهارسيا حتي نغير من عادة الاستحمام في الترعة. التغيير هنا يكون بالوعي والثقافة.. نعرف خطورة البلهارسيا قبل أن ننزل الترعة.. نعرف تأثير التدخين علي القلب وتصلب الشرايين قبل أن نشعل سيجارة .. كل ما نعاني منه من أنفسنا .. يقول سبحانه وتعالي: ¢ وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ¢ إن النبي صلي الله عليه وسلم عندما أراد أن يغير ما بالقوم من شرك وكفر في زمانه لم يقتلهم ولم يدمرهم.. لقد بُعِثَ ليجد الناس تعبد الأصنام لتقربهم إلي الله زلفي.. ويعبدون الأوثان علي أنها آلهة.. لكنه.. لم يكسر أصنامهم.. بل صبر عليهم.. علمهم التوحيد.. فلما دخل الإيمان قلوبهم.. خرج الشرك منه.. وتبعه الكفر أيضاً.. أبصروا بنفس العيون التي كانوا يبصرون بها سابقاً.. وبنفس القلوب التي كانت في صدورهم.. وبنفس العقول التي كانت في رؤوسهم قبل ذلك. لقد أبصروا التماثيل التي كانوا يعبدونها من قبل فوجدوها - بعد أن غيروا ما بأنفسهم - مجرد حجارة لا تضر ولا تنفع ولا تصلح لشئ مما كانت تُقَدَّس به.. لا تصلح أن تكون آلهة تُعْبَد لذاتها أو للتقرب إلي الله.. هنا غيَّر الله ما بهم من شرك وكفر لأنهم غيَّروا ما بأنفسهم من تصورات إيمانية خاطئة.. وفعلوا ذلك استعانة برسول الله صلي الله عليه وسلم. إن الرسول لم يقتلهم ولم يكسِّر أضلاعهم بل ساعدهم علي نزع الشرك من قلوبهم فماتت الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها وهي منتصبة أمامهم.. ماتت واقفة.. ولا يتعلل أحد بما فعله سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما كسَّر الأصنام.. فهو عندما فعل ذلك زادت تجارة الأصنام وتحمَّس لها الناس وحسَّنوا في صنعها .. ولم يقضِ علي الشرك والوثنية يقول سبحانه وتعالي: ¢ فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمي علي الهدي¢ قال: ¢ هديناهم ¢ أي دللناهم علي الهدي.. دلّهم علي الخير.. دلّهم علي النور.. وهو يعني أنه ترك لهم الخيار.. لكنهم اختاروا الظلام.. السواد.. العمي.. وهو ما يعني أن الله لا يرغم الناس علي الهداية.. وكان سبحانه وتعالي قادراً علي ذلك.. فلماذا يصرّ البعض علي قتال غيره بدعوي الهداية؟! لا هداية لمن لا يريد أن يغيِّر ما بنفسه.. وقد استخدم الله كلمة ¢ استحبوا ¢ وهي تعني أنه ترك لهم الخيار.. لم يرغمهم علي شئ. كونك تجد شخصاً يريد أن يهديك بالعافية.. أهو أعلم أم الله؟ أهو أقدر أم الله؟ أهو صاحب الدين أم الله؟ إن الله هو الذي خلقنا ويعرفنا جيداً ومع ذلك خيَّرَنا بين الخير والشر.. بين الكفر والإيمان.. بين الشرك والعبادة.. إن ذلك يبدو واضحاً مؤكداً في كلمة ¢ استحبوا ¢ فاستحبوا معناها اختاروا.. اختاروا بأنفسهم العمي علي الهدي.. فإذا كان الله لم يرغم الناس علي الهداية وكان يقدر علي هدايتهم غصباً عنهم فلماذا يصرّ الناس علي ذلك؟ لماذا يصرُّون علي هداية غيرهم بالعنف والقسوة؟ لقد ترك الله حرية العقيدة لعباده.. وكان يستطيع أن يلوي أعناقهم.. إنها ديمقراطية السماء التي لم يتعلمها المتطرفون الذين تصوروا أنهم يمكن أن يصلوا إلي هداية الآخرين بالعافية.. وفي الوقت نفسه بسط الله يده ليتوب كل من أذنب وليؤمن كل من كان علي الشرك.. فمن يملك قدرة أكبر من قدرة الله حتي يستخدم العنف لهداية الناس؟ ولو استطاع هذا الشخص السيطرة علي البدن بالحبس والقوة والجلد والتعذيب والتخريب والتفجير فهل يستطيع أن يفتح القلوب ويُدخِل فيها الإيمان؟ إذن مبدأ الهداية بالقوة ليس إرادة إلهية ولا سلوكاً نبوياً ولا تراثاً تركه لنا السلف الصالح.. ولا طائل منه إلا إذا كان الأمر يتعلق بالتعلل خدمةً لغرض ما.. غرض آخر.. يجعله يبالغ في العنف.. فمن يشرب سيجارة يكفرونه.. ومن يبتسم يقتلونه.. فالحرق عندهم أسهل من الإصلاح.. يقول سبحانه وتعالي: ¢ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ¢ لا نملك في الدعوة إلي الله إلا الحكمة والموعظة الحسنة والحوار بالتي هي أحسن.. وهي أدوات ثقافية عالية لا تتوافر إلا في عدد قليل من البشر.. أما التدمير والحرق والتخريب فلا يحتاج إلي هذه القدرات.. يحتاج فقط إلي سلوكيات همجية.. بربرية.. بلطجية.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.