كان ذلك في السابع والعشرين من مايو الماضي: المرشح لانتخابات الرئاسة الإيرانية، حسن روحاني، يجلس هادئا شامخا مبتسما، كعادته، في أحد استديوهات التلفزيون الرسمي، عاقدا ساعديه أمام صدره، مرتديا عباءته السوداء، ملقيا من وقت لآخر نظراته الساخرة الواثقة علي الصحفي الذي يحاوره، حيث كان ذلك الأخير يضع قدما فوق الأخري ومنهمكا في كتابة ملاحظاته علي ما يدلي به السيد روحاني من تصريحات. وما بين روحاني والتلفزيون الرسمي الإيراني، ما صنع الحداد كما يقول المثل الشائع، إذ إن الرجل الذي استلم مهام منصبه رسميا كرئيس للجمهورية الإسلامية الإيرانية، يوم السبت الماضي الثالث من أغسطس الجاري، يوصف بالإصلاحي المعتدل بينما التلفزيون الرسمي هو أحد معاقل المحافظين المتشددين في نظام الملالي الحاكم في إيران. كما أن "حسن عابديني" المدير العام للتلفزيون الإيراني، لم يتوقف طوال السنوات الماضية عن كيل الاتهامات لروحاني بالضعف والخذلان، باعتباره كان مسئولا رخوا، إبان توليه المفاوضات مع الغرب بخصوص ملف طهران النووي، وهو الذي تعهد للأوروبيين بوقف مؤقت لتخصيب اليورانيوم أواخر عام 2003. وحينما واجه المذيع روحاني بهذه الاتهامات، كان رد رئيس الجمهورية وبنفس ابتسامته الواثقة: " إن ما تقوله ليس سوي محض أكاذيب، فتلك الاتفاقيات في سعد أباد (قصر تاريخي شهير في إيران) وفي بروكسل وفي باريس، لم يتم العمل بأي منها، وأنت تعلم ذلك جيدا، فلتتوقف عن ترديد ما يلقنه إياك الجهلة والمغرضون، وأظنك تعلم من أقصد.. هيا!!.. من الأفضل لك أن تغرب عن وجهي". وهنا أسقط في يد الصحفي بعدما أصابه الذهول، وبينما كان ينهي الحوار مضطرا، قاطعه روحاني موجها حديثه لحسن عابديني، وملوحا أمام الكاميرا بمفتاح فضي:"فلتفهم يا عابديني أن لكل مشكلة حلا، بالأمل وبمفتاح حسن الإدارة يمكن تجاوز جميع العقبات.. فلتتذكر كلامي جيدا، سيتم حل المشكلة النووية وسوف يتم رفع العقوبات المفروضة علي إيران وسوف تسترد بلادنا ازدهارها". في الأيام التالية، قام المرشح روحاني بمضاعفة مقابلاته الجماهيرية في العاصمة والمدن الأخري، وأمام الجماهير المتحمسة لكلماته طالب بالإفراج عن كل المعتقلين السياسيين، المحبوسين منذ 2009 علي خلفية اعتراضهم علي إعادة انتخاب أحمدي نجاد، الرئيس المنتهية ولايته، لفترة ثانية. كما انتقد روحاني الرقابة التي تفرضها الدولة علي الإنترنت ووسائل الإعلام بشكل عام، واصفا ذلك بالشيء "الذي لا يستحقه الشعب الإيراني"، وطالب بحقوق متساوية للنساء، وأبدي غضبه من عودة الدولة البوليسية القمعية في عهد أحمدي نجاد، لا سيما في فترة حكمه الثانية، ونظرا للتأثير القوي لكلمات روحاني في الشارع وتفاعل الجمهور معه، اضطر المرشح الإصلاحي "محمد رزا عارف" إلي الانسحاب من الماراثون الانتخابي معلنا تأييده لروحاني، ليفوز ذلك الأخير بالاستحقاق الرئاسي في جولته الأولي بنسبة 50.7٪ في سابقة لم تحدث في تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية. تاريخ روحاني ويتساءل المراقبون: هل اختار الإيرانيون رجلا حالما؟ أهو جورباتشوف إيران بما يعد به من سياسة قائمة علي المصارحة والشفافية في المقام الأول؟ أم أن روحاني سيدخل التاريخ بإلقائه عباءة الثيوقراطية وفتح باب الإصلاحات؟، لا هذا ولا ذاك، فبالنظر إلي تاريخ الرجل سنقتنع بشيء مغاير تماما لما يتعشم فيه البعض، فروحاني المولود عام 1948 في مدينة "صرخة" (علي بعد 200 كيلو من العاصمة طهران)، يقول عن نفسه" في الحادية عشرة من عمري كنت أعمل في ورشة لنسيج السجاد"، هكذا كتب الرجل علي تويتر، وفي الثانية عشرة من عمره التحق حسن فريدون (هكذا كان اسمه قبل أن يغيره لحسن روحاني) بالحوزة العلمية في مدينة "قم" لينهل من علم رجال الدين، وتمكن بجده واجتهاده من الحصول علي درجة "حجة الإسلام" (درجة علمية دينية عند الشيعة)، وفي عام 1966 أي حينما كان عمره ثمانية عشر عاما، ذهب روحاني إلي العراق سرا لزيارة "آية الله الخوميني"، الذي كان يعيش منفيا في بغداد في ذلك الوقت، قبل أن ينتقل للإقامة في العاصمة الفرنسية باريس، كما درس روحاني الحقوق في جامعة طهران، ثم حصل علي الماجستير من جامعة جلاسكو الإسكتلندية، ثم أنهي دراسة الدكتوراه بنفس الجامعة في التسعينات من القرن المنصرم. حينما اندلعت الثورة الإيرانية عام 1978، طار روحاني إلي باريس للقاء الخوميني والترتيب معه ومع أتباعه لمرحلة ما بعد الإطاحة بالشاه، وكان الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني رفيق درب روحاني في تلك المرحلة من حياته، وبمجرد سقوط الشاه في فبراير 1979، تقلد روحاني العديد من المناصب الهامة في قلب السلطة الإيرانية الجديدة، حيث أشرف بنفسه علي أسلمة برامج التلفزيون، وتم انتخابه عضوا في البرلمان، ثم عضوا في المجلس الأعلي للدفاع الوطني، وحينما أعلن عراق صدام حسين الحرب علي إيران، انشق كثير من ضباط الجيش الإيراني وهربوا للخارج، بعدما تأكد لهم أن الغرب بالكامل يقف بجوار صدام في تلك الحرب، لرغبته في التخلص من الخميني ودولته الدينية المعادية للمصالح الغربية، وفي تلك الأثناء تنقل روحاني بين عدة مناصب في المؤسسة العسكرية، كان أبرزها عمله في القوات الجوية، وعقب وفاة الإمام المؤسس آية الله الخوميني عام 1989، خلفه المرشد الحالي "علي خامنئي"، الذي جعل من روحاني رجله المقرب رقم 1 وعينه ممثلا شخصيا له في المجلس الأعلي للأمن القومي، ومكث روحاني في هذا المنصب حتي عام 2005. ذكي وخبيث "ذكي وخبيث"، هكذا يصف"فرانسوا نيكو" السفير الفرنسي السابق في طهران(من 2001إلي 2005)، الرئيس الجديد لإيران حسن روحاني، ويضيف "نيكو" لصحيفة لوموند الفرنسية اليومية: " لا شك أن المرشد يثق في روحاني ثقة مطلقة، فلم يحدث أن غضب أحدهما من الآخر، وليس بينهما تلك التوترات التي تعكر علاقة خامنئي بهاشمي رفسنجاني". أما"بول فون مالتزاهن" السفير الألماني السابق في طهران، فيضيف عن روحاني"بالفعل هو رجل خبيث، ودائما ما تري في عينيه لمعانا يشير إلي ذلك، وفي الوقت نفسه هو معقد واستعراضي أمام الكاميرات ومتملق وأملس وأبعد ما يكون عن تفتح الرئيس الأسبق محمد خاتمي"، ويكمل السفير الألماني وصفه "للملا الدبلوماسي" ، قائلا:" روحاني لم يكن يتحدث إلينا بالإنجليزية بالرغم من أنه يجيدها بطلاقة، وكان مدربا بشكل جيد علي القيام بعمله كدبلوماسي، وكان يعرف كل شيء عن الملف النووي لبلاده ولكنه كان يصر علي اصطناع البلادة". شخصية روحاني كرجل قانون كانت طاغية علي شخصيته كرجل دين، ولا يتذكر أحد من الدبلوماسيين الغربيين الذين تعاملوا معه أنه استخدم مصطلحات دينية في مفاوضاته معهم، وإن كان حريصا علي أداء الصلوات في وقتها، حيث يتذكر أحد موظفي الخارجية الفرنسية أن روحاني كان في زيارة لباريس عام 2003، وطلب إخلاء قاعة كاملة بالدور الثاني ليصلي والوفد المرافق له، ويحكي السفير الفرنسي"فرانسوا نيكو" عن موقف لا ينساه حدث في طهران في أكتوبر عام2003، حيث كان روحاني مجتمعا، في قصر سعد أباد، مع ثلاثة وزراء خارجية أوربيين، هم: الفرنسي"دومينيك دوفيلبان"والإنجليزي"جاك سترو" والألماني"يوشكا فيشر"، وكان ثلاثتهم يطالبون روحاني بأن تتوقف بلاده فورا عن عمليات تخصيب اليورانيوم، وكان هو يتهرب من التعهد بأي شيء " وحينما اشتد ضغط الوزراء الثلاثة عليه، قام لحجرة مجاورة وتحدث في هاتفه بصوت نصف مسموع، ولم يكن الأمر بحاجة لكثير من الذكاء لأفهم من نبرة صوته أن محدثه علي الطرف الآخر هو السيد علي خامنئي"، ثم عاد روحاني بعدها لطاولة المفاوضات ليؤكد أنه يتصرف علي مسئوليته الشخصيه وأنه يقبل من حيث المبدأ أن توقف بلاده تخصيب اليورانيوم، مانحا الغربيين بذلك ما ظنوه نجاحا في ذلك الوقت. ويواصل "فرانسوا نيكو":" ينبغي الحكم علي الرئيس الجديد من خلال أفعاله وليس من مواقف مسبقة، وهو الذي أوقف تخصيب اليورانيوم من قبل، لذا فلا أنتظر منه أن تصنع إيران القنبلة النووية في عهده"، ويقول "نيكو" أيضا:" في عام 2003لم يكن روحاني يعلم علي ما يبدو حجم البرنامج النووي لبلاده، ولقد اكتشف ذلك من خلال تقارير مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ووقتها أصيب بغضب شديد وأرسل مذكرة موحدة لإدارات كل الوحدات العاملة في البرنامج النووي، يطالبهم فيها بشرح تفصيلي لما تقوم به كل وحدة من عمل"، ويوضح "نيكو" أن روحاني لم يكن يعلم بالفعل حجم البرنامج النووي لبلاده وهو ما أكدته المخابرات الأمريكية من خلال تنصتها علي مكالمات الرجل !! حدث كبير الأسباني خافيير سولانا الذي شغل سابقا منصب الممثل الأعلي لشئون الأمن والسياسة الخارجية لدول الاتحاد الأوروبي، الذي تعامل مع روحاني من قبل، صرح للوموند الفرنسية معلقا علي تنصيبه رئيسا قائلا:" إنه حدث كبير، لم نوقع مع إيران سوي اتفاقية واحدة، وكان ذلك بفضل روحاني ، لقد تابعت كل أحاديثه التليفزيونية كمرشح للرئاسة، كان جريئا وشجاعا". صيف عام 2005 كان نقطة تحول في حياة حسن روحاني، حيث كانت إيران علي وشك أن توقع مع الغرب اتفاقية أخري بخصوص برنامجها النووي، ولكن في الرابع والعشرين من يونيو، وبخلاف كل التوقعات فاز محمود أحمدي نجاد بانتخابات الرئاسة الإيرانية في الجولة الثانية علي حساب الإصلاحي المعتدل الرئيس الأسبق "أكبر هاشمي رفسنجاني"، ويتذكر السفير الألماني"بول فون مالتزاهن" تلك الفترة قائلا:"لم نكن نريد توقيع اتفاقيات أخري مع إيران في الأسابيع الأخيرة من ولاية محمد خاتمي (رئيس إيران في الفترة من 1997إلي 2005)، كنا واثقين من فوز رفسنجاني وكنا نطمع فيما هو أفضل معه، وكان أحمدي نجاد يتحدث عن روحاني وفريقه باعتبارهم خونة، بشكل جعلني أشفق عليهم"، وكان فريق روحاني يتوسل للأوروبيين لكي يوقعوا اتفاقية جديدة قبل أن يتولي أحمدي نجاد مهام منصبه، وتقدمت الترويكا الأوروبية، إنجلترا وفرنسا وألمانيا، بعرض جديد بالفعل لكنه قوبل بالرفض في إيران يوم السادس من أغسطس2005، وفي الثامن من نفس الشهر تولي أحمدي نجاد مهام الرئاسة رسميا، ليعلن في نفس اليوم أن بلاده ستعاود تخصيب اليورانيوم في مفاعل أصفهان، وبعد ذلك بأسبوع أصدر قرارا برفت حسن روحاني من منصبه، ومنذ ذلك الحين لجأ روحاني إلي مركز الدراسات الاستراتيجية بطهران، حيث كان يمضي فيه معظم وقته ليجهز لحملته الانتخابية، ورافقه طوال تلك السنوات الثماني من كانوا يعملون معه في فريق المفاوضين الدوليين، وإن كان بعضهم قد تعرض للاعتقال، فيما كان البعض الآخر غادر البلاد بناء علي طلب من المخابرات الإيرانية، وهو ما حدث مع "حسين موسيفيان" الذي غادر للعمل كأستاذ بجامعة "برينس تاون"بولاية نيوجيرسي الأمريكية ومن المتوقع أن يعود لإيران قريبا ، وكان تصريحه عقب فوز روحاني بمقعد الرئاسه:" أعرف "حسن" منذ 25عاما، إنه شخص براجماتي ومعتدل وهو يسعي لسد الفجوة بين بلادنا وبين دول المنطقة وكذلك مع العالم الغربي".