أعلن بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر في مفاجأة كبيرة استقالته من منصبه لأسباب صحية، ليضع الكنيسة الكاثوليكية في اختبار صعب لاختيار خليفته في ظل أزمات وفضائح متلاحقة تتعرض لها الكنيسة بالإضافة إلي مطالبات عدة بعدم احتكار أوروبا للمنصب خاصة أنه بات من المعروف في ظل موجة الإلحاد في أوروبا أن عدد الكاثوليك في أفريقيا وأمريكا اللاتينية أكبر بكثير من أعدادهم في القارة العجوز.. لا يوجد أسلوب أو طريقة رسمية لاختيار الرجل الذي سيخلف بنديكت. لكن الأكيد أن الكاردينالات من مختلف دول العالم سيدخلون في اجتماعات مستمرة بداية من شهر مارس لاختيار الشخصية الأهم في الكنيسة الكاثوليكية. هناك أسماء عديدة يتم طرحها. ربما أنطونيو تاجل كاردينال مانيللا الذي انتقد علنا الفاتيكان وأكد بصراحة في اجتماع بروما أكتوبر الماضي أن الكنيسة لابد أن تستمع أكثر للانتقادات وتعترف بأخطائها. أو ربما يكون الكندي أولت الذي يتمتع بشعبية كبيرة في أوساط الكاردينالات. لكن كل هذه الانطباعات التي تم جمعها من خلال بعض اللقاءات مع رجال الدين أو المصادر المقربة من الكنيسة ليست مقياسا للاختيار الجديد. فطريقة التصويت غير معروفة للملأ وعادة ما تأتي بنتائج غير متوقعة للجميع. الكاردينالات سيتجمعون صباح كل يوم بداية من 1 مارس المقبل بعد يوم من ترك بنديكت لمنصبه لمناقشة من يمكنه تقلد هذا المنصب المهم. سيختارونه طبقاً لمعايير تتعلق بقوة الشخصية وأسلوب الحديث والخبرات التي حصل عليها، لكن الاختيار أيضاً له عوامل أخري منها المنطقة الجغرافية التي ينتمي إليها المرشح وقربه من أصحاب النفوذ في الكنيسة. وسيظل الكاردينالات يجتمعون إلي أن يطمئنوا تماماً إلي وجود توافق حول اختيار شخصية واحدة لنيل شرف الحصول علي لقب بابا الكاثوليك. وطبقاً لقواعد الكنيسة، فإن الاختيار يجب أن يظهر بحلول 15 مارس، لكن المتحدث باسم الفاتيكان قال إن هذا الاختيار قد يظهر قبلها. خاصة أن بابوات الكنائس بدأوا بالفعل في النقاش عبر التليفون والإيميل للوصول إلي الاختيار المناسب. حيث يسألون بعضهم مارأيك في هذا الشخص وذاك. ويقول جون تافيس مدير مكتب البابا السابق إن المرشح لا يتم اختياره عادة علي أعماله في الكنيسة الخاصة به ولكن عن طريق تأثيره واتصاله بالكنيسة الأم في الفاتيكان. ويعتبر جون أن التحدي الأكبر أمام الكنيسة هو مواجهة اللادينية المتزايدة في أوروبا وأمريكا والتي بدأت أيضاً تتسرب لأمريكا اللاتينية. وستعمل الكنيسة أيضاً لاستخدام الأساليب الحديثة في الدعوة والتبشير باستخدام فيس بوك وتويتر وباقي الشبكات الاجتماعية الأخري. أما بالنسبة لجنسية البابا فهذا أمر أثار جدلا كبيرا في الآونة الأخيرة، فالواقع يقول إن موجة العلمانية في أوروبا جعلت العدد الأكبر من الكاثوليك غير موجود في القارة العجوز بل في أفريقيا وأمريكا اللاتينية. وبالتالي من غير اللائق أن يكون اختيار الشخصية الكاثوليكية الأكبر دائماً من أوروبا وتهميش القارات الأخري. ويقول روكو بالمو صحفي أمريكي مقرب من الكنيسة إنه من الواضح أن بنديكت كان يخطط للاستقالة منذ فترة لذلك عمل علي عمل لقاءات عديدة مع الكاردينالات ليعطيهم فرصة ليتعرفوا علي بعض بصورة أفضل. وذكر المتحدث باسم الفاتيكان الأب فيديريكو لومباردي بأن الدستور الرسولي ينص علي أن يبدأ المجمع بعد 15 إلي عشرين يوما من "خلو المنصب"، لكنه أوضح أن هذه المهلة وضعت "في حال وفاة الأب الأقدس" في حين أن "الوضع مختلف هذه المرة". وحددت هذه المهلة لإفساح المجال أمام الكرادلة أعضاء المجمع للتوجه إلي روما. وأضاف لومباردي "في حال وصلوا جميعا لن يكون هناك سبب للانتظار". وأضاف أن "العديد من الكرادلة تساءلوا" عن إمكان تقديم موعد المجمع، علماً بأن ثمة بندا في الدستور الرسولي يتيح هذا الأمر في حال توافق عليه الكرادلة. وسيجتمع الكرادلة ال117 الناخبون في كنيسة سيستين طوال المدة المطلوبة لتأمين أكثرية الثلثين. ويرمز الدخان الأبيض الذي يتصاعد من الكنيسة إلي انتخاب بابا جديد. وتقديم موعد المجمع سيسمح للبابا الجديد بالاستعداد في شكل أفضل لعيد الفصح الذي يصادف هذه السنة في 31 مارس. وتري أوساط الفاتيكان أن البابا الأمثل لخلافة بنديكت ينبغي أن يكون قادرا علي مخاطبة الكاثوليك والعالم المعاصر برمته. ويعتبر الكاردينال الإيطالي فيلاسيو دي باوليس أنه ينبغي عدم استبعاد المرشحين الأوروبيين وإن كانت غالبية الكاثوليك موجودة الآن في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وقد يستمر المجمع لفترة طويلة وسط الأزمة العميقة التي تشهدها الكنيسة الكاثوليكية علي وقع تراجع الدعوات الكهنوتية وفضيحة الاعتداءات الجنسية والانشقاقات في الكهنوت الروماني. وفي هذا السياق، يري البعض أن فضيحة تسريب وثائق الفاتيكان السرية العام الماضي التي أدين فيها كبير خدم البابا باولو جابرييلي قبل أن يصدر عفو عنه، كانت من أسباب الاستقالة المدوية لبنديكتوس السادس عشر. ونقلت وكالات الأنباء عن مصادر قريبة من الفاتيكان أن باولو جابرييلي يستعد لتوقيع اتفاق سري يتعهد فيه بالتزام الصمت حول الأعوام الستة التي أمضاها في خدمة البابا. والأسبوع المقبل، سيخلو برنامج البابا من المواعيد الرسمية علي أن يطل للمرة الأخيرة في لقاء عام ينظم في ساحة القديس بطرس في 27 فبراير. وفي اليوم التالي، سينتقل بنديكتوس السادس عشر في مروحية إلي المقر الصيفي للبابوات في قلعة جاندولفو قرب روما. وفي مصر اعتبر عدد من علماء ورجال الدين المسلمين أن قدوم بابا جديد يفتح الباب مجددا لتحسين العلاقة المتوترة بين الفاتيكان والمسلمين، آملين أن يخلق البابا الجديد أجواء الاحترام اللازمة لاستئناف الحوار بين الجانبين. وقال الدكتور محمود عزب، مستشار شيخ الأزهر لحوار الأديان، إن "استعادة العلاقات مع الفاتيكان تتوقف علي الأجواء الجديدة التي سيخلقها البابا الجديد"، وتابع "المبادرة الآن في يد الفاتيكان لتحسين العلاقات ونحن نرجو بالطبع أن يكون هناك تقدم في العلاقات". وأرجع عزب تدهور العلاقات بين الفاتيكان والأزهر إلي "تراكم مواقف وإهانات كثيرة ضد المسلمين"، مشددا علي أن "الأزهر رد عليه حينها". من جانبه قال الشيخ يوسف القرضاوي رئيس هيئة علماء المسلمين: "سبق وقررنا في هيئة علماء المسلمين مقاطعة الفاتيكان بعد تصريحات البابا التي أساءت للإسلام في ميونيخ لكن الآن شاء القدر أن نستكمل الحوار بعد اختيار بابا جديد" وأضاف "ونحن متفائلون". ورغم انخراط مؤسستي الأزهر والفاتيكان في جولات من الحوار البناء خاصة في عهد البابا يوحنا بولس الثاني إلا أن تصريحات البابا بنديكتوس حول الإسلام ووضع المسيحيين في الشرق الأوسط أثرت سلبا علي تلك العلاقات حتي وصلت لدرجة التجميد. وكان بنديكتوس السادس قد ربط بشكل غير مباشر بين الإسلام والعنف في خطاب له في جامعة ريجينسبرج في مدينة ميونيخ الألمانية في سبتمبر 2006. وهو الأمر الذي أثار تظاهرات غاضبة في العالم الإسلامي. وعلي الأثر قرر الأزهر تجميد علاقاته مع الفاتيكان لأجل غير مسمي بسبب "ما تكرر صدوره من بابا الفاتيكان أكثر من مرة من تعرضه للإسلام بشكل سلبي، ومن ادعائه اضطهاد المسلمين للآخرين الذين يعيشون معهم في الشرق الأوسط". بدوره، يعتقد خبير العلاقات الدولية واستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر حسن وجيه أن الفرصة مواتية لاستعادة العلاقات بين الأزهر والفاتيكان لكنه دعا الطرفين لتبني أسس جديدة لعلاقتهما. وأضاف وجيه: "البابا الجديد مطالب بأسس جديدة للعلاقات مع المسلمين والأزهر، أولها الاعتراف بالمشاكل الراهنة وفتح نقاش لتجاوزها، ثانيا عدم الوقوع في فخ المعلومات المغلوطة، ثالثا دعم الاحترام المتبادل ورابعا تحقيق التوازن السياسي والعدل والمنطق في علاقة الفاتيكان بالمسلمين وبالأديان والدول الأخري". وقال الشيخ محمود عاشور، وكيل الأزهر السابق وعضو مجمع البحوث الإسلامية، "المطلوب من البابا الجديد عدم مهاجمة الإسلام ودعم العلاقات مع الأزهر بشكل متكافئ وأن يكون أساس العلاقات بين الطرفين هو أن الأديان تكمل بعضها ولا تنافس بعضها".