أضحي المشهد السياسي في مصر أشبه بالجسد المريض، يحتاج إلي دواء ورعاية نفسية فائقة، وبخاصة بعد حالة الانقسام والشيزوفرينيا التي شهدها الشارع علي المستويين السياسي والشعبي، منذ إصدار الرئيس محمد مرسي لإعلانه الدستوري في 22 نوفمبر الماضي، وما تبع ذلك من سقوط عدد من الشهداء والمصابين بين صفوف الفريقين المؤيد والمعارض لقرارات الرئيس قبل إلغاء هذا الإعلان وإصدار آخر بتاريح 8 ديسمبر لم تتفق حوله القوي السياسية "آخرساعة" وضعت هذا المشهد علي "الشيزلونج" الخاص بخبيرين في علم النفس، يتفقان في المنهج ورغم ذلك تباينت قراءة كل منهما للوضع الراهن الذي يمر به الجسد المصري والحالة النفسية للبلاد. الباحث النفسي بمعهد الدراسات التربوية في جامعة القاهرة الدكتور وليد نادي قدم قراءته في شخصية مصر وحالتها النفسية الآن، والوضع الذي آل إليه المشهد السياسي الراهن معتبراً أن ما يحدث هو حالة من الفوضي والعنف والتخبط والبلبلة والتخوين والتكفير والتجرؤ علي مؤسسات الدولة ورموزها بمن فيهم الرئيس المنتخب، انفلات أخلاقي وغياب أمني. مستشهداً بما أشارت إليه العديد من الدراسات الحديثة بأن معظم المصريين يعانون من القلق والإحباط والتشاؤم والخوف من المستقبل هذه الأيام. يتابع نادي: البعض يرجع ذلك إلي القرارات الأخيرة التي اتخذها الرئيس مرسي متمثلة في الإعلان الدستوري بتاريخ 22 نوفمبر الماضي، لكنني أري أن الوضع كان ملتهباً ومعقداً منذ فترة وأن النار كانت تحت الرماد وأن هذا الإعلان ليس سبباً فيها، بل إنه الشرارة التي أوقدت النار، وهناك عوامل عدة تقف وراء المشهد الراهن في مصر يجب أن نتعرف عليها حتي تكتمل الصورة ولكن هذه المرة فإننا نتناولها بشكل مختلف من المنظور النفسي. ويوضح الخبير النفسي المعروف هذه العوامل بقوله: بداية الانقسام كانت بعد خطاب التنحي للرئيس السابق، وانشغال الجميع بتوزيع غنائم الثورة ووصلت إلي قمتها مع انتخابات الرئاسة وما حملته من مفاجآت وما حدث بها من انقسام في الشارع، وظهور فريق خاص بمرسي وآخر مؤيد لشفيق ومجموعة كبيرة معظمها من الشباب تناصر حمدين، ومع الوقت أصبح فريق شفيق وأنصار حمدين في اتجاه مضاد لمرسي وجماعته، وتكمن المشكلة في أنه كان من البداية ولايزال لدي أنصار كل من شفيق وحمدين قناعات– أري أنها مشروعة، لكننا أمام رئيس شرعي منتخب– بأن مرشحيهم شفيق وحمدين هما الأجدر والأكثر تمثيلاً للشعب من مرسي واقترن ذلك بمخاوف لدي الكثيرين من سيطرة الإسلاميين بقيادة الإخوان، نظراً للصورة الذهنية السيئة عنهم سواءً في الماضي أو خلال أخطائهم في المرحلة الانتقالية، وبالتالي أصبحت هناك وجهة نظر مضادة لهم ترفض وتشك في أي تصرف صادر عنهم، وعلي رأسهم الرئيس المنتخب الذي ينتمي إليهم وهذا الرفض سببه فقط أنه صدر من الآخر، وسمعنا عن اعتراضات وهجوم كبير علي خطاب الرئيس بعد ساعات قليلة من توليه الرئاسة في 03يونيو الماضي. ويضيف الدكتور نادي: نحن أيضاً منقسمون الآن بين الاعتقاد، فالاعتقاد هو البرمجة الراسخة لما تعنيه الأشياء وكل ما تدركه النفس وهو الدافع الرئيسي لتصرفات الإنسان، والاعتقاد يولد الفعل كما أن الاعتقادات تتكون لدي الفرد من الأسرة والبيئة المحيطة والأحداث والمعرفة والتجارب السابقة والتخيل، ونجد أن الفريق الأول من الاعتقاد يمثل التيارات الليبرالية والعلمانية واليسارية وبعض المستقلين من الشعب، والذي يري في جماعة الإخوان المسلمين جماعة متطرفة تبحث عن مصالحها وتعقد الصفقات لأجل الهيمنة والسيطرة وإقامة دولة المرشد، وهذا وإن كان به بعض الصواب، إلا أنه لا يمكن التعميم عليه. والفريق الثاني متمثلاً في الإخوان والتيارات الإسلامية وبعض التيارات المعتدلة التي لديها اعتقاد بأن الآخر يضم عملاء وخونة وأصحاب أجندات خارجية، ويصل الوضع أحياناً إلي تكفير البعض، وهناك من يلعب علي الوازع الديني علي أساس أنه من الدوافع القوية التي تحرك الإنسان، خاصة في مصر ذات الهوية الإسلامية، وهذا أيضاً وإن كان به جزء من الصواب، فإننا لا يمكن التعميم عليه، فهناك الكثير من المعارضين شرفاء ويعملون لأجل الصالح العالم. الأمر الثاني - والحديث مازال علي لسان الدكتور وليد نادي - هو الشباب وهم وقود الثورة وقادتها وأول من بدأوها، هؤلاء الذين يجب استغلال طاقتهم الكامنة في سبيل النهوض بمصر، وهؤلاء لم يجدوا من يحتويهم ولم يجدوا مشروعاً قومياً حقيقياً للالتفاف حوله، وأحياناً يستخدمهم البعض لإهداف سياسية قذرة. أيضاً لدينا شباب الألتراس الذين أراهم قنبلة موقوتة إذا لم يتم احتواؤهم وإصلاح العلاقة بينهم وبين المؤسسة الأمنية وبخاصة بعد مجزرة بورسعيد، وأراها نقطة تحول خطيرة في علاقتهم بالشرطة. وينتقل نادي إلي الخطاب الديني واستغلال الدين لإهداف سياسية ووجود بعض التصرفات الفردية غير السوية لبعض أنصار التيار الإسلامي الذي للأسف بدأ يثير مخاوف البعض ويكون صورة ذهنية سيئة عن الدين وعن الشريعة، أيضاً أصبحنا في مقارنة غير منطقية تماماً بين دولة مدنية ودولة إسلامية رغم أن الإسلام مدني بطبيعته. وحول التلميح من حين إلي آخر بوجود مؤامرات تحاك ضد مصر، يقول نادي: رغم أنني لا أؤمن بنظرية المؤامرة إلا أنه لا يجب أن ننكر وجود جهات وقوي كبيرة داخل مصر وخارجها، أفراد ومؤسسات ودول لا تريد نجاح مصر وثورتها. ويمضي الخبير النفسي في تحليل شخصية مصر وبخاصة مع تزايد وتيرة وحدة وشدة العنف مرجعاً السبب كما يقول إلي الكبت الشديد الذي عاني منه الشعب المصري علي مدار سنوات طويلة والظروف الاجتماعية والمعيشية الصعبة، فجاءت ثورة يناير وارتفع سقف الطموحات والتطلعات لدي الشعب وتزامن ذلك مع طول المرحلة الانتقالية وأخطائها وعدم تحقيق الأهداف المنشودة حتي بعد انتخاب الرئيس، فهذه الحالة من استعجال ثمار الثورة مع تردي الأحوال المعيشية أدت إلي حالة من الإحباط الشديد، كانت هي نواة العنف الذي نشهده الآن. وإمعاناً في القراءة التحليلية للمشهد يقول: ينادي البعض الآن بثورة ثانية وجمعة غضب ثانية وتكرار أحداث ثورة يناير، وأري أنه لن تقم ثورة جديدة في مصر إلا بعد بضع سنوات، والسبب غياب الدافع، فقبل ثورة يناير كان الدافع موجوداً وهو الإحساس بالظلم والفقر وجاءت الثورة وانتهت معها ثورة الغضب، وفيما يتعلق بالدوافع فسوف أضرب مثالاً بحرب العراق الأخيرة وكيف أن الجنود الأمريكان والإنجليز كانوا يرفضون الذهاب للحرب أو ينتحرون أو يتحولون إلي وحوش بشرية وبالتحليل النفسي لذلك وُجد أن السبب هو غياب الدافع وعدم وجود قضية. ويحذر وليد نادي من سقوط الرئيس الشرعي المنتخب، لأن ذلك سيكون المسمار الأخير في نعش الثورة المصرية وقد ينذر بحرب أهلية، لذا يجب أن تكون المعركة من خلال الصندوق.. والقبول بالإعلان الدستوري الجديد الذي أصدره الرئيس في 8 ديسمبر الجاري ويكون الصندوق هو الفيصل في مسألة الدستور. ويكشف الخبير النفسي أنه من مؤيدي الإعلان الدستوري لكنه في الوقت ذاته يقول لو شعرت أن الرئيس يستخدم الصلاحيات لشخصه وجماعته وأنه بدأ يسير في طريق الديكتاتورية فإنني سوف أكون أول معارضيه، لافتاً في نهاية حديثه إلي أبرز الحلول للخروج من هذه الكبوة مؤكداً: علينا بحوار مجتمعي حقيقي من دون شروط مع تغليب الصالح العام علي المصالح الشخصية. علينا بتعليم قوي فلا نهضة بلا تعليم حقيقي إذا كنا حقاً ننشد النهضة. علي الرئيس أن يتخذ بعض القرارات الثورية التي تخدم المواطن وتحقق أهداف الثورة وأن يكون المعيار في اختيار القادة هو الكفاءة وليس الولاء وأن يتم احتواء شبابنا الثائر الآن من خلال خطوات جادة حقيقية. ويجب اعتماد مبدأ الشفافية ومصارحة الشعب بكل ما يحاك ضده من مخططات ومؤامرات إن وُجدت وأن يكون هناك انسجام داخل مؤسسة الرئاسة. البنية النفسية في المقابل يقول الدكتور حمدي الفرماوي أستاذ رئيس قسم علم النفس التربوي في جامعة المنوفية رئيس الجمعية المصرية للدعم النفسي: في كتابي "ثورة الكرامة المصرية" الذي صدر في 22فبراير 1102.. توقعت تعدد المنصات وتضخم الذات للقوي الوطنية في الفترة الانتقالية وحذرت منهما، ولأن المسيرة بعد الثورة التي تولي قيادتها المجلس الأعلي للقوات المسلحة لم تسر علي الشرعية الثورية، حدث التخبط والتضارب، وتعددت المنصات بالفعل وظهر معها الجدل السياسي العقيم، فقد بحث كل فصيل عن مكان تحت سماء الثورة، ثم استخدم البعض ميكانيزم الإقصاء، وكان لابد أن يُستخدم فالنفوس مكبوتة، والبنية النفسية مضطربة، فكل فصيل حاول أن يقصي الآخر ليصبح هو الشكل ويُفقد الآخرين أرضية، وهذا من قبيل تأكيده للذات وتعويض عن الدور المفقود، إذ لم تستطع هذه الفصائل تأكيد ذاتها في عصر مبارك. كانت الثورة المصرية في حاجة ماسة إلي قرارات ثورية في بداياتها، تقلل كثيراً من هذه الأبعاد النفسية السلبية، وتضبط الإيقاع وتهيئ البلاد سريعاً لبناء مؤسسات الدولة الجديدة. وبحسب الفرماوي فقد كان هذا المنهج كفيلاً، بتحقيق الآتي: انعدام اللغط السياسي المتزايد وعدم التأثير السلبي علي إرادة المواطن وتوجهاته، وشعور الشعب بآثار إيجابية للثورة، وعدم تزايد الانفلات الأمني والأخلاقي، وتهذيب أساليب التظاهر والاعتصام والتعبير عن الرأي. ويتابع: أما الإخوان المسلمون، فهم المنظمون بين القوي الوطنية الأخري المجهدة، وضعوا أعينهم علي مجلس الشعب، وفعلاً وصلوا للأغلبية، ثم طمعوا في الرئاسة وكان لهم ذلك، واستغلوا مفاهيم دينية مع شعب متدين ، والإخوان لهم بنية نفسية خاصة قائمة علي عدة ركائز، أهمها مبدأ السمع والطاعة واحتكار الحقيقة، والاستحواذ. ويفند رئيس الجمعية المصرية للدعم النفسي هذه المبادئ فيقول: أما مبدأ السمع والطاعة، فإنه يقود إلي عقلية منغلقة مبرمجة، فلا مرونة مع الأحداث أو المستجدات، وبالنسبة إلي مبدأ احتكار الحقيقة فهو يحمل الإخوان أحكاماً سلبية مسبقة عن الموقف ودوافع سلبية ذاتية دفينة ومعلومات لا يحكمها المنطق، فحلولها التي تطرحها هي الدواء الشافي، في حين أن تلك الحلول تنطلق من نزعة للتطرف أو معلومات مغلوطة أو ثأر حزبي أو أفكار تأسلمية، أما مبدأ الاستحواذ ذلك الذي يقودهم إلي السعي نحو أقصي مكاسب سياسية وكراسي إدارية، والتمسك بها والدفاع عنها وبغض النظر عن حق الآخرين فيها، وقد تعاظم هذا السلوك لديهم من قناعة بأنهم فقط الذين كافحوا وناضلوا وعذبوا وسجنوا! يضيف الفرماوي: جاء الرئيس ليترجم كل هذه المبادئ إلي أفعال وقرارات، فاضطربت مؤسسة الرئاسة، ولأن الذات الإخوانية تضخمت والبنية النفسية الإخوانية لا تؤهل إلي الرؤية السياسية المحنكة، انتهي الأمر إلي الإعلان الدستوري الأول الذي ألغاه الرئيس واستبدله بإعلان جديد، وهنا كانوا في دهشة من اعتراض القوي الوطنية! وهذا طبيعي أيضاً، فهم لا يدركون المستجدات ولا يستطيعون تأجيل إشباع دافع الاستحواذ، ولا يمكن أن يكونوا قادرين علي التنبؤ بأن إعلانهم سوف يُقسم شعب مصر إلي نصفين ليذهب به إلي المواجهة والعنف، وعاد نفس الثوار إلي مواقعهم، وعادت نفس وجوه 52يناير الصادقة إلي التحرير، ليقولوا للإخوان إننا فهمنا اللعبة، وها نحن مازلنا ندافع عن الحرية والكرامة، وسنبدأ الثورة مجدداً.. إنه دافع الوجود، الذي حرك هؤلاء الثوار، حينما يختلط بمعني للحياة محدد، فيشبع به الثائر الحاجة للحب، تلك التي تتغذي بالتعاطف والتي قد تصل إلي الإيثار.. حبٌ للوطن وانتماءٌ إليه، وطن يحتاج أولاده في الشدة، ومازال الرئيس متأخراً حتي بعد ظهوره عشية الخميس الماضي علي شاشة التلفزيون، فلم يظهر بجديد يساوي الدم الذكي الذي سال علي رصيف الاتحادية وعلي أعتاب القصر الجمهوري. الصعوبة في الموقف الآن – حسب ما يري الفرماوي - هو أن العدد الأكبر من المصريين أصبحوا لا يشعرون بالأمن ولذا يجب أن يكون أي حل مطروح للموقف مراعياً هذا البعد النفسي الخطير.