تتلاحق الأحداث بصورة لايستطيع أي مراقب لها تتبعها، وإلي أين تفضي لكن من الواضح أننا أمام لحظات فارقة وحاسمة في تاريخ مصر، فهناك استحقاق انتخابي سيجري بعد أيام قليلة عندما يتوجه ملايين المصريين إلي صناديق الاقتراع ليقولوا كلمتهم في مشروع الدستور الجديد، أحداث الأيام الماضية كانت مأساوية وحزينة أدمت قلوبنا بعد سقوط ضحايا في أعمال عنف وتخريب منشآت نادرا مايعرفها أو يمارسها المصريون، لغة الحوار بين فرقاء المشهد السياسي شهدت تصعيدا لم نره من قبل وكأننا في ساحة قتال، ربما أسهم الحوار الذي جري بداية الأسبوع الحالي لأكثر من عشر ساعات وضم 45 من رموز القوي الوطنية والأحزاب والرئيس ونائبه ومستشاريه في قصر الاتحادية منذ أيام في تخفيف أجواء الاحتقان التي هددت سلامة الوطن وأبنائه وصدور إعلان دستوري جديد يلغي السابق الذي أثارغضب العديد من الدوائر السياسية والقضائية وأشعل فتيل الأزمة. ومايهمنا هنا في هذا الصدد أن نورد بعض الملاحظات علي خلفية ماجري من أحداث قادت لمثل هذا المستوي غير المسبوق من العنف والدموية: أولا: أن مشروع الدستور الذي استغرقت جمعيته التأسيسية قرابة ستة أشهر قد تم إعداده وسط مناخ وأجواء بالغة الصعوبة والتعقيد وتحت قصف سياسي وإعلامي وملاحقات قضائية جعلت أعضاءها في مهمة انتحارية. ثانيا: أن المنسحبين من الجمعية التأسيسية مع اقترابها من إكمال مهمتها كان سياسيا بالدرجة الأولي بهدف قلب الطاولة علي الآخرين رغم مشاركتهم في وضع معظم مواد ونصوص مسودة الدستور، ومضابط جلسات اللجان الفرعية والعامة تثبت ذلك وكذلك التوقيعات علي المحاضر من القوي المدنية وممثلي الكنيسة. ثالثا: مشكلة القوي المدنية في الصراع الدائر هذه الأيام هي رفضها للحوار علي أي مستوي، بل وتضع شروطا له تنسفه من الأساس.. ويمكن القول إن المعارضة المتمثلة في جبهة الإنقاذ الوطني لم تقف عند رفض الإعلان الدستوري ومشروع الدستور والاستفتاء عليه، بل انطلقت لمدي أبعد بالتحريض علي الإطاحة برئيس منتخب والمطالبة بعزله وحصار قصر الرئاسة والتلويح باقتحامه وتنصيب مجلس رئاسي مدني لم يختره أحد من الشعب في صورة صارخة للوصاية وبالمخالفة لأبسط قواعد الديمقراطية، فالشعب هو صاحب القرار في بقاء أو رحيل حاكمه عبر صندوق الاقتراع وليس لأي فصيل سياسي أن يفرض رؤيته أو يصادر علي قرارالشعب رابعا: أن ماصدر من بعض ممثلي الجبهة كشف عن مطالبات أثارت الكثير من الجدل في مدي إيمانهم بالديمقراطية مثل الدعوة لتدخل الجيش والاستقواء بالخارج والتحريض علي العنف رغم شعار السلمية خاصة مايتعلق بحصار قصر الرئاسة، وماجري في محيطه من أحداث دامية وكذلك ماصدر عن بعضهم بالاستعانة بفلول النظام السابق ولغة التعالي والغرور التي ظهرت في تصريحات بعضهم، مثل "نحن لن نسمح للمصريين بالتصويت علي الاستفتاء سلميا"، وتصريح آخر باتخاذ كل الوسائل لتحقيق ذلك، ومواصلة التصعيد والدعوة إلي العصيان المدني، بل لم يقم أحد منهم باستنكار أحداث العنف التي قادت لسقوط ضحايا وحرائق المنشآت!! خامسا: أظهر بيان القوات المسلحة قدرا كبيرا من التوازن والعقلانية تجاه الأحداث ،حيث لم تنحز لفريق ضد الآخر.. وحذر البيان من الفوضي ومن يحدثها، ودعا للحوار كطريق أمثل للتوافق وتعهد القوات المسلحة بالحفاظ علي سلامة الوطن والمواطنين. سادسا: أن شباب الثورة الذين تظاهروا غضبا من الإعلان الدستوري السابق وعبروا سلميا عن ذلك، لايمكن بحال من الأحوال نسبة ماجري إليهم من عنف وسقوط قتلي هنا وهناك وعمليات إحراق لمقرات حزبية للتيار الإسلامي وصولا لمهاجمة مسكن أسرة الرئيس بالشرقية، لأن عناصر الثورة المضادة من فلول النظام القديم ومن قاموا بتمويلهم وراء كل تلك الممارسات بهدف إحداث موجات من الفوضي تقود البلاد لمصير مجهول! سابعا: لعبت الفضائيات والصحف المستقلة الممولة من بعض الرموز التي تنتمي للنظام السابق أدوارا بالغة الخطورة في الشحن والتحريض وبث الشائعات مما أفقدها مصداقيتها والتزامها المهني تجاه مشاهديها، وعلي الجانب الآخر كانت هناك قنوات وصحف للتيار الإسلامي كان بعضها علي قدر من الحدة في التناول رغم قلة عددها مقارنة بالنموذج الأول وحرفيته ووسائله للوصول للمشاهدين والقراء، وبدت الصورة وكأننا في حرب طاحنة بين الجانبين، ويلاحظ أن الصحف المستقلة استخدمت في عناوينها الرئيسية لغة خطاب خشنة اعتمدت علي إساءات بالغة للرئاسة وللتيارات الإسلامية لم نرها من قبل في أي عهد سابق، وكذلك في برامج التوك شو سواء من الضيوف أو مقدمي البرامج، في أسوأ موجات الانفلات في تاريخ الإعلام في مصر. ثامنا: أن البعض أثار أن مصر مقبلة علي انقسام وحرب أهلية، هي دعوة خبيثة وخارج المنطق والسياق التاريخي لبلد ظل طوال آلاف السنين موحدا، كما أن مصر لا تملك العوامل التي تقود لذلك إلي الدرجة التي لايمكن معها أن تعرف المسلم من المسيحي إلا بذهاب أحدهم للمسجد والآخر للكنيسة واللغة جامع وقاسم ثقافي وتاريخي وحضاري مشترك بين كافة المصريين، والداعون للتقسيم يستحقون لقب خونة بامتياز. وأخيرا نقول إن مصر تستحق أن يعيش أبناؤها عيشا كريما في أجواء من الحرية وفي دولة مؤسسات وقانون يقف الجميع أمامه علي قدم المساواة وألا نسمح لأجواء الفساد والاستبداد والقهر أن تعود مرة أخري ، لكن لندع الشعب يقول كلمته الفاصلة والحاسمة دون أن يفرض فصيل أيا كان نوعه ولونه وصايته عليه ويحدد له طريقه ومصيره. فقط أدعو الجميع لقراءة الدستور الجديد بعين منصفة وليس بعدائية وليقرر كل منا خياراته سواء بالقبول أو الرفض، فهو حق أصيل لكل مواطن يحرص علي استقرار بلده وبدء طريقه نحو آفاق الحرية والعدالة والكرامة.