يواصل إمام الدعاة الراحل فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي خواطره الإيمانية التي جذبت أفئدة الناس في كل مكان علي اختلاف ميولهم واتجاهاتهم ببيانه الرائع وأسلوبه السلس عن الخير والشر، فيؤكد أن الإرادة البشرية وضعت أول بذور الشر في الكون بين أولاد آدم في قصة »قابيل.. وهابيل«.. كأول جريمة قتل علي الأرض، ولو أن الأول أتبع قول الحق (سبحانه وتعالي) ماوقع هذا الشر! جعل الله سبحانه وتعالي الجمال في كل خلقه في كونه.. وجعل قوانين الأسباب لتحفظ هذا الجمال.. فالذي يأخذ بيد الله الممدودة بالأسباب.. يعطيه الله، والذي يحاول أن يتحايل بأن يأخذ الشئ من طريق ماحرم الله، إنما يفسد في هذا الكون.. إن الكون مخلوق لينسجم مع منهج الله في كل شئ.. في العمل وفي الأسرة.. وفي الأطفال، وفي الرزق.. وفي كل حركة الحياة، تأخذ بقوانين الله لايأتيك إلا الخير، تبتعد عن قوانين الله.. لا يأتيك إلا الشر.. ليس فقط في الدنيا، ولكن في الدنيا والآخرة.. ولذلك يقال: »لاخير في خير يؤدي إلي النار.. ولا شر في شر يؤدي إلي الجنة«. لكن كيف يمكن أن يؤدي الخير إلي النار؟ ولنضرب لذلك مثلا.. رجل يسرق ليتصدق بما يسرق، يأخذ من الأغنياء ويعطي الفقراء، ويطلقون عليه اسم اللص الشريف! وهو أبعد مايكون عن الشرف، إنه يظن أنه يعمل خيرا، ولكنه في الحقيقة يرتكب شرا كبيرا.. لأنه سرق ماحرم الله أن تمتد يده إليه.. ولن ينفعه الخير الذي فعله ولا يتقبل منه، لأنه يأتي عن طريق حرام.. والله سبحانه وتعالي.. لم يطلب من أحد أن يعينه في كونه علي الرزق.. وهو الرزاق للجميع .. حتي المال الحرام رزق.. ولكنه رزق حرام. شر المال الحرام الله سبحانه وتعالي لايبيح لأحد أن يأتي بمال حرام، ثم يدعي أنه يفعل الخير، فالإنسان لايشرع بأن يحلل حراما، أو يحرم حلالا، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالي: »قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَآ أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللَّهِ تَفْتَرُونَ « (الآية 95 سورة يونس) وهكذا يعرفنا الله جل جلاله.. أن الحرام والحلال بإذنه ومن تشريعه، وأن الإنسان لايحل له أن يحرم ما أحل الله، ولا أن يحل ماحرم الله، والله تبارك وتعالي لايريد من أحد أن يعينه في كونه وهو القادر علي كل شيء.. القاهر لكل خلقه.. فلا يرتكب أحد عملا حراما، ثم يدعي أنه خير.. لأنه كما قلنا لا خير في خير يقود إلي النار. أو تأتي امرأة فتبيع شرفها وتقول إنني فعلت ذلك لأربي أولادي تربية حسنة!! نقول لها ما تفعلينه حرام ولايتقبل منك ما أنفقته علي أولادك، لأن الله غني عن هذا كله.. ولو صبرت قليلا لرزقك الله من حلال ما أعانك علي تربية أولادك. ربح الإنسان وخسارته كذلك لاشر في شر يؤدي إلي الجنة.. أي أنك لو نصرت مظلوما وأصابك من ذلك أذي ، فهو ليس شرا ولكنه خير.. لأنك ستثاب عليه أحسن الثواب.. ولو أنك استغنيت عن بعض الكماليات وتصدقت بثمنها تكون رابحا ولست خاسرا.. لأنها ستضاعف لك عند الله جل جلاله. فقد أهديت لرسول الله [ شاة مصلية (مشوية)، فأمر بتوزيعها علي الفقراء والمساكين، فقامت السيدة عائشة رضي الله عنها بتوزيعها، وأبقت كتفها.. لأنها كانت تعلم أن النبي [ كان يحب لحم الكتف، ولما عاد النبي [ وسأل عن الشاة قالت له السيدة عائشة: وزعنا لحمها وأبقينا الكتف، فقال [: بقيت كلها، إلا الكتف. هذه هي المقاييس الحقيقية للخير والشر.. إنها المقاييس التي وضعها الله سبحانه وتعالي.. ولكن الإنسان أساء بالاختيار الذي منحه الله له في الكون، فبدلا من أن يأخذ مقاييس من خلقه وأوجده، حاول أن يضع هو المقاييس لنفسه. ولكي نفهم هذه الحقيقة، علينا أن ننظر إلي الكون الأعلي الذي لا اختيار فيه لبشر، سنجد أنه في غاية الانتظام.. وفي قمة الدقة.. يعطي لكل خلق الله حياة مريحة بلا شقاء ولا ظلم. الشمس والقمر والنجوم فالشمس والقمر والنجوم والكواكب والهواء وسائر الأشياء التي لا إرادة للإنسان فيها علي الأرض، تؤدي مهمتها دون أن يشكو منها أحد.. ودون أن تتعب أحدا.. فلا أحد اشتكي أن الشمس تأخرت عن موعد شروقها، أو أنها أشرقت علي قوم وحجبت أشعتها عن قوم آخرين، ولا أحد أتعبه نظام الكواكب في أنه اختل فاختل معه نظام الكون، ولا أحد قال إنه بحث عن الهواء ليتنفس فلم يجده، ولا أحد يستطيع أن يدعي أن المطر انقطع عن الأرض فقضي علي الحياة فيها وهلك الزرع والحيوان والناس، ولا أحد يستطيع أن يقول إن الأرض اختلت في دورانها وألقت مافوق سطحها إلي الفضاء. كل هذا لم يحدث.. بل إن هذه العوامل كلها المقهورة لله سبحانه وتعالي تؤدي دورها دون أن نحس و نشعر بأنها تؤدي مهمتها كاملة بلا اختيار منها، ولكن الفساد والشر في الأرض جاء من الأشياء التي فيها اختيار للإنسان، ذلك أن الإنسان تدخل باختياره ليفسد لا ليصلح! فإذا نظرنا إلي بداية الحياة نجد أن الله سبحانه وتعالي أراد أن يلفتنا إلي منهج الحياة في هذا الكون ومنذ لحظة نزول آدم إلي الأرض أنزل الله تبارك وتعالي معه المنهج، فطلب منه أن يبلغ ذريته أن هذا المنهج من الله جل جلاله، من اتبعه لا يضل ولا يشقي.. فقال كما يروي لنا القرآن الكريم: ». قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًي فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَي ...«. تبليغ منهج الله وهكذا منذ لحظة بداية الإنسان علي الأرض.. بين الله سبحانه وتعالي له أن الشقاء والشر إنما يأتي بالابتعاد عن منهج الله، وأن هذا المنهج إذا طبق كما أراد الله.. لما وقع شر في الكون.. فكأن الله قد بين لنا الطريق مع بداية الحياة.. وآدم نزل إلي الأرض ومعه المنهج.. وأبلغه لأولاده.. وهؤلاء أبلغوا ذريتهم وهكذا.. وهنا تأتي الإرادة البشرية لتضع أول بذور الشر في الكون بين أولاده في قصة هابيل وقابيل التي رواها لنا الحق سبحانه وتعالي .. إنها أول جريمة قتل علي الأرض بين ولدي آدم..قابيل وهابيل.. ولو أن قابيل اتبع قول الحق جل جلاله..»وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ«. (من الآية 33 سورة الإسراء). ماوقع هذا الشر، ولكن الذي حدث أن أحدهما وهو قابيل.. خالف المنهج وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق.. قصة قابيل وهابيل والقصة أن الله سبحانه وتعالي قضي أن تلد حواء في كل حمل ذكرا وأنثي، حتي يتم التكاثر في الأرض وعمارتها.. وكان ذكر البطن الأول يتزوج أنثي البطن الثاني.. وذكر البطن الثاني يتزوج أنثي البطن الأول. ولكن قابيل لم يعجبه هذا، لأن أخته التي ولدت معه كانت أجمل من تلك التي جاءت مع هابيل.. فأراد أن يخالف القاعدة، وأن يتزوج أخته التي جاءت معه في نفس البطن.. ولجآ إلي أبيهما آدم الذي طلب منهما أن يحتكما إلي الله سبحانه وتعالي: ويروي لنا القرآن الكريم القصة فيقول:»وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِين« (الآية 72 سورة المائدة«. وهذه القصة تلفتنا إلي أن الله سبحانه وتعالي أنزل المنهج علي آدم بمجرد نزوله علي الأرض، وأنه جل جلاله لم يترك الإنسان علي غير هدي منذ اللحظة الأولي من الحياة.. بل هداه وبين له مايقيم الحياة الطيبة، وما يعبد به الله ويتقرب به منه.. ذلك أن بعض الناس يدعي أن آدم نزل علي الأرض بلا منهج، وأنه ترك علي غير هدي هو وذريته حتي أرسل الله إدريس نبياً ونوحاً بعده وهم يستندون في ذلك إلي أن قصص الأنبياء تبدأ بنوح عليه السلام.. أي أنه لم يكن هناك نبي قبله.. نقول إن هذا غير صحيح ويتنافي مع عدل الله تبارك وتعالي.. والله جل جلاله يقول:»وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّي نَبْعَثَ رَسُولاً ) ... الطاعة.. والمعصية إذن فلابد من إبلاغ منهج الله للناس أولا.. ليكون عدلا أن يكافأ من أطاع ويعذب من عصي.. ولو أنه لم يكن هناك منهج.. فيكف احتكم قابيل وهابيل إلي الله سبحانه وتعالي؟ لقد كانا علي علم يقيني أن الله سبحانه وتعالي موجود وواجب الوجود، ولولا أن آدم أخبرهما بالمنهج ماعلما ذلك. لايمكن أن نصل إلي متطلبات الله.. كيف نعبده ومايرضيه وما يغضبه بالعقل وحده.. ذلك أن العقل غاية مايصل إليه هو أن هناك إلها لهذا الكون.. فيتأمل آيات الكون وخلق السموات والأرض والشمس والقمر وغير ذلك.. إنه يوصلنا إلي أن هناك خالقا عظيما.. هو الذي أوجد هذه الأشياء.. لأنه لاقدرة لبشر علي أن يوجدها، فلا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق الشمس أو القمر أو النجوم أو الأرض.. ولا أحد مهما بلغت قوته وعلمه يستطيع أن يدعي أنه خلق نفسه.. فتلك أشياء فوق قدرة البشر جميعا ولو اجتمعوا لها.. إذن فلابد من خالق لهذا الكون هو الذي أوجده.. وهو الذي خلقنا. من هو الخالق؟.. وماذا يريد منا؟.. تلك أمور فوق طاقة العقل لايستطيع أن يصل إليها.. ذلك أن قدرة العقل تقف عند الدليل علي أن لهذا الكون خالقا وموجداً.. ولكن مااسمه؟.. وماذا يريد منا؟.. وكيف نتقرب إليه؟.. وماذا يرضيه وماذا يغضبه؟.. تلك أمور فوق قدرة العقل البشري. الله كريم معطاء ولكي نقرب ذلك إلي الأذهان.. نقول: إذا كنا نجلس في حجرة مغلقة، ثم سمعنا طرقا علي الباب.. غاية مانستطيع أن نصل إليه هو أن بالباب طارقا.. ولكن من هو؟،، هل هو رجل أو امرأة أو طفل؟.. ماذا يريد؟.. أيريد بنا خيرا أم شرا، هل جاءنا بشيء طيب أم لم يأت بشيء علي الإطلاق.. أم جاءنا ليبلغنا أشياء لا نعرفها.. هذا لايمكن أن نصل إليه إلا إذا قمنا وفتحنا الباب. ولكن الله سبحانه وتعالي كريم معطاء، ولذلك لم يتركنا في حيرتنا، لقد أرسل إلينا الرسل ليفتحوا لنا أبواب السماء ويبلغونا أن خالق هذا الكون هو الله سبحانه وتعالي.. وأنه يريد منا أن نعبده وأنه حتي لا نضل حدد لنا هذه العبادة وطريقة أدائها، وأعلمنا أن هناك حياة أخري فيها خلود.. وأن الله أعد للطائعين نعيما هائلا.. وأعد للعاصين عذابا أليما. ولذلك اقتضت رحمة الله سبحانه وتعالي أن تبدأ الحياة البشرية علي الأرض بالرسل.. لأن هؤلاء هم الذين سيبلغوننا عن الله مايريدنا جل جلاله أن نعرفه عنه في أنه هو الله الخالق الذي أوجد كل شيء، أنه وضع لنا منهجا للحياة نتبعه.