وفي ذكري رسامة قداسة البابا كيرلس السادس الذي حمل مسئولية قيادة الكنيسة طوال الفترة (10 مايو 1959 9 مارس 1971) فإننا نقدم لأبناء الكنيسة القبطية بصفة خاصة والمصريين بصفة عامة بعضا من الصور النادرة للأعمال التي قام بها قداسته، طالبين من الرب أن ينيح نفسه البارة مع نفس أبينا البار والمحبوب قداسة البابا شنوده الثالث الذي سهر علي خدمة الكنيسة بمجهود مبارك في جميع الظروف المناسبة وغير المناسبة إذ قد حمل في قلبه حبا صادقا لهذه الكنيسة المقدسة وأولادها، ولمصر كلها. نحو فجر جديد في 10 مايو 1959 عرف الأقباط فجر عهد جديد.. كما يسجله لنا المؤرخان د. حكيم أمين ود. يوسف منصور في مرجعهما الموثق "عشر سنوات مجيدة في تاريخ الكنيسة" والصادر عام1969 .. وبدأت حياة الكنيسة مع روحانية جديدة وعصر جديد كذلك. نعم كان الأقباط يتطلعون إلي عهد صلاح وإصلاح، فمنذ عام 1928 وحتي عام 1956 جلس علي الكرسي المرقسي ثلاثة من البطاركة كانوا من الآباء المطارنة فشهدت الكنيسة في عصرهم العديد من الصعاب والمشاكل إذ كان جلوسهم مخالفاً للقوانين الكنسية وتقاليدها. فجاء 10 مايو 1959 محققاً لآمال الأقباط ومجيباً لطلباتهم، فمنذ أن صدر القرار الجمهوري في 13 نوفمبر 1957 بلائحة ترشح وانتخاب البابا السكندري الذي يخلف المتنيح البابا يوساب الثاني البطريرك 115.. بدأت صلوات مستمرة ترتفع من قلوب قوية في إيمانها بربها ومستقبل كنيستها ليختار الله من يرعي شعبه بالبر والتقوي وتشكلت لجنة من المطارنة والأساقفة عددهم تسعة، ومن الآراخنة عددهم تسعة يتقدمهم الأستاذ مريت غالي حيث تنوعت بين رجال القانون والمهتمين بالتاريخ القبطي والمشتغلين باللغة القبطية، وصارت رئاسة اللجنة إلي الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف والبهنسا وقائمقام البطريرك. وبعد عدة اجتماعات للجنة.. إذ كان القائمقام البطريرك حازماً في تطبيق قوانين الكنيسة بكل وضوح انتهت اللجنة إلي قبول تزكيات خمسة مرشحين من الآباء الرهبان فقط وهم: القمص دميان المحرقي (وكيل البطريركية بالإسكندرية)، والقمص تيموثاؤس المحرقي، والقمص أنجيلوس المحرقي، والقمص مينا الأنطوني، والقمص مينا البراموسي المتوحد. وقبل يوم الانتخاب حضر وفد من الكنيسة الأثيوبية مكون من الأمير أسارات كاسا، وأسقف هرر، وأسقف أسلا، والسيد ماكونن دستا وكيل مجلس النواب. في 3 مارس 1959 صدر قرار اللجنة بتحديد يوم الجمعة 17 ابريل 1959 لانتخاب ثلاثة رهبان من المرشحين. وفي يوم الجمعة المشار إليه جرت عملية الانتخاب التي انتهت بانتخاب ثلاثة من الرهبان المرشحين للبطريركية، وهم: القمص دميان المحرقي، والقمص أنجيلوس المحرقي، والقمص مينا البراموسي المتوحد. القرعة الهيكلية طبقاً لتقاليد الكنيسة القبطية، كانت الخطوة التالية أن تجري قرعة هيكلية لاختيار واحد من الثلاثة رهبان الفائزين في الانتخابات، ولذلك تم تحديد يوم الأحد 19 ابريل 1959 لهذا الشأن، حيث أقام مطارنة وأساقفة الكنيسة قداساً بالكاتدرائية المرقسية الكبري بالأزبكية وتم وضع ثلاث أوراق تحمل كل منها اسم أحد المرشحين في مظروف واحد ختمه قائمقام البطريرك أمام المصلين بالشمع الأحمر ووضعه علي المذبح في صندوق زجاجي مغلق، وفي نهاية الصلاة جري فتح المظروف أمام مطارنة وأساقفة الكنيسة والشعب كله، وقام شماس صغير (معصوب العينين) بسحب ورقة منها فخرجت تحمل اسم "القمص مينا البراموسي المتوحد". وهنا دقت أجراس الكاتدرائية دقات الفرح معلنة انتخاب البطريرك 116 من خلفاء القديس مرقس طبقاً للتقاليد الكنسية المعمول بها علي مدي العصور. عندئذ أيقن الشعب بكل وضوح أن عناية الله تدخلت لاختيار الراهب مينا المتوحد الذي عرف الجميع عنه حياة النسك الدائم والصلاة الدائمة. يوم فريد في تاريخ الكنيسة وفي يوم الأحد 10 مايو 1959 تمت رسامة المختار من الله باسم البابا كيرلس السادس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية ليكون أسقفاً علي الإسكندرية حسب التقليد. كان من المتوقع أن يحمل اسم "البابا مينا" ولكن القائمقام البطريركي بحكمته وبُعد بصيرته اختار له اسم "كيرلس" ليكون امتداداً للبابا كيرلس الخامس البطريرك 112 الذي جاء أيضاً طبقاً لتقاليد الكنيسة. شهد طقس رسامة البطريرك الآلاف من الأقباط الذين امتلأت بهم الكاتدرائية وأفنية البطريركية وتقدم حضور هذا الطقس الذي أذيع علي الهواء مباشرة من إذاعة الجمهورية العربية المتحدة جميع المطارنة والأساقفة وشهده مندوب السيد رئيس الجمهورية (السيد أنور السادات) وممثلو الكنائس وأعضاء السلك الدبلوماسي والقنصلي. كان يوم الرسامة تالياً لذكري استشهاد القديس مرقس (8 مايو 68م) كما وافق مرور 100 عام علي إنشاء الكاتدرائية المرقسية الكبري بالأزبكية (في عهد البابا كيرلس الرابع البطريرك 110). البابا كيرلس واهتمامه بأثيوبيا من أجل جمع شمل الكرازة المرقسية، وجه قداسته أهتماماً بالكنيسة الأثيوبية، فبعد عشرين يوماً من رسامته أرسل وفداً مكونا من ثلاثة من المطارنة وأربعة من الأراخنة يتقدمهم د. مراد كامل أستاذ التاريخ القبطي والذي كان يجيد 33 لغة منها اللغة الأمهرية، والسيد أمين فخري عبدالنور (نجل أحد رجال ثورة 19 ووالد وزير السياحة الحالي منير عبدالنور) إلي أثيوبيا يحمل رسالة لجلالة الإمبراطور هيلاسلاسي الأول تتضمن عزم قداسته علي إجراء تنظيم أعمال الكنيسة الرعوية والإدارية بالطريقة التي تمكّنها من أداء رسالتها وتحقيق مسئولياتها علي الوجه الذي يريح ضمير قداسته أمام الله، وأن هذا التنظيم سيشمل جميع أقاليم الكرازة المرقسية، وطلب في الرسالة إرسال وفد أثيوبي للاشتراك في دراسة هذا التنظيم، كما بعث قداسته بخطاب مماثل إلي الأنبا باسيليوس ليقا باباسات أثيوبيا. وهنا لمس الأثيوبيون مدي عطف قداسة البابا عليهم حتي أنهم استراحوا لما قدمه قداسته من استعداد لتنظيم الخدمة الكنسية. في نفس الوقت قام قداسة البابا كيرلس السادس بتكليف القس أنطونيوس السرياني (البابا شنوده فيما بعد) بكتابة بنود بروتوكول التعاون بين الكنيستين ووضع طقس رسامة جاثليق أثيوبيا، فجاء البروتوكول علي أكمل وجه. نكتفي بهذا القدر من العديد من الإنجازات التي تمت في فترة 12 عاماً في عهد البابا كيرلس السادس، متطلعين بآمال شديدة أن تأخذ انتخابات البطريرك 118 نفس روح انتخابات 1959 ونتمني التوفيق والسداد للجميع.