الناخبون لم ينخدعوا بشعارات الإخوان ما من وسيلة فعالة لقياس القوة الحقيقية لأي فصيل سياسي سوي الانتخابات.. وفي ماراثون الشوري الأخير كشفت صناديق الاقتراع بوضوح تام حجم التأثير الضئيل لجماعة الإخوان المسلمين في الشارع المصري.. إذ خرج مرشحو الجماعة الأربعة عشرة (ومثلهم احتياطيون) صفر اليدين.. بلا أي حضور، بلا أي معركة تنافسية شرسة، بلا أي مقعد.. ما يؤشر ببساطة إلي أن الإخوان يدفعون الآن ثمن سنوات طويلة قضوها في المراوغة وتعمد التقوقع والانغلاق وقهر الأصوات الإصلاحية فيما بينهم، فضلاً عن مواصلة خلط الدين بالسياسة، ولعب أدوار خفية في مخططات إقليمية كبري تخالف الأجندة الوطنية المصرية، وقبل كل شئ خوض تحالفات انطلاقاً من مصالح خاصة ضيقة، مثلما هو الحال بادياً الآن في التقارب الكبير بين مكتب الإرشاد والدكتور محمد البرادعي.. سقطات الإخوان في معركة الشوري تنوعت وتشعبت، لتتجاوز مجرد الإصرار علي استخدام شعار ديني طائفي يخالف القانون والدستور "الإسلام هو الحل" .. والتعامل مع الأقباط باعتبارهم "أقلية" عددية والنظر للمرأة كمواطن من الدرجة الثانية لا يحق لها تولي المناصب العليا كرئاسة الجمهورية، لتصل إلي فضح المواقف الرجعية للجماعة فيما يخص الحريات العامة ورؤيتها للإصلاح الاقتصادي والثقافة والفنون ومباديء المواطنة.. قبل أن تصل إلي درجة الذروة، وكرد فعل مباشر للخسارة المدوية في الانتخابات، بإعلان تأييد تحركات الجمعية المصرية للتغيير التي يتزعمها، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومرشح الرئاسة المحتمل عام 2011 الدكتور محمد البرادعي.. والذي دعا أعضاء الجماعة للانضمام إليه خلال المؤتمر الذي عقده الجمعة بمدينة سنورس بمحافظة الفيوم، مؤكداً أهمية دمجها في الحياة السياسية المصرية، قبل أن يقوم بزيارة لمقر الكتلة البرلمانية للإخوان ظهر السبت، وذلك في حلقة جديدة من مسلسل المغازلات التي يخاطب بها البرادعي جموع الإخوان.. كان رئيس الكتلة البرلمانية لجماعة الإخوان الدكتور محمد سعد الكتاتني، قد أعلن أن الجماعة ستبدأ خلال أسابيع في جمع توقيعات للبرادعي من مختلف أنحاء البلاد، وفي الشوارع التي للجماعة وجود قوي فيها، وقد جاء الإعلان الإخواني بعد ساعات من إخفاق الجماعة في الفوز بأي مقعد في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشوري. ما يمثل انقلاباً في موقفها المعلن منذ أكثر من ستة أشهر بعدم التحالف مع البرادعي، ويعكس رغبة إخوانية كبيرة في جمع "كروت" ضغط تمكنها من تحقيق أية مكاسب سياسية ممكنة في انتخابات مجلس الشعب القادمة، خاصة بعدما أيقنت صعوبة الاعتماد علي صندوق الانتخابات في الحفاظ علي تواجدها علي الساحة السياسية. ومن ثم فإن الموقف الجاف نوعاً ما الذي كانت تتخذه الجماعة طيلة الفترة الماضية من الدكتور البرادعي قد بات فجأة علي النقيض تماماً، خاصة أنه لم يكن ينبع من اختلاف في الرؤي أو التوجهات، بقدر ما ارتبط بإرث الإخوان في المناورة والمواءمة السياسية، فقد كانوا في حالة من الترقب والانتظار؛ هل يدخلون في تحالف سياسي مع البرادعي بجدية استثماراً لحالة الوفاق التي أظهرها لهم، أم يظلون بجوار حائط المعركة ربما يحصلون علي بعض الغنائم، سواء منه أومن معارضيه، لاسيما وأن الإخوان لم يكونوا قد تأكدوا بعد من قدرة البرادعي وجديته في دخول لعبة الانتخابات، ولا من وجود حلفاء له في الخارج وبالتحديد في أوروبا وأمريكا يمكن للإخوان الاستقواء بهم لتحقيق مكاسب بالداخل. ناهيك عن أنهم كانوا يطمعون في استمالة الدول بعدم مساندة البرادعي من أجل الحصول علي عدد من المقاعد في الشوري بغير وجه حق، وهو ما لم يتحقق. ومن جديد نعود لنؤكد علي أن فكرة شغل الرأي العام بجدل قانوني ودستوري حول شعارات الإخوان المسلمين وبرامجهم وأطروحاتهم السياسية وبطبيعة التحالفات التي يخوضونها سواء مع البرادعي أو غيره إنما تأتي متماهية تماماً مع عدد الأدبيات والثوابت الإخوانية الشهيرة التي تدعو صراحة أعضاء الجماعة وقادتها ل"شغل الرأي العام بالإخوان واستخدام النقد الإعلامي الذي يتم توجيهه للجماعة لخلق حالة من التعاطف حولها".. و"الاستفادة من حالة الامتداد الإعلامي والميديا العالمية في خلق مساحة من الحرية لحركة الإخوان في المجتمع".. حسبما جاء نصاً بوثيقة التمكين الإخوانية الشهيرة. إذن فالجدل الذي أحدثه البرنامج الإخواني المهلهل لانتخابات الشوري، وكذا الحديث الدائر حالياً حول تداعيات مساندتهم للبرادعي، بحسب المنهج النفعي القائل إن الغاية تبرر الوسيلة، لم يكن كله ضجيجاً بلا طحين بالنسبة لصقور الجماعة، فواقع الأمر أنه وبالرغم من الخسارة المدوية التي تلقاها مرشحوهم الأساسيون والاحتياطيون في الانتخابات فقد أحدثوا زخماً إعلامياً حولهم يتماشي وفكرة الغرام بالظهور والمتأصلة في عقلية الجماعة منذ تأسيسها علي يد الشيخ حسن البنا قبل ثمانية عقود. وفي هذا الشأن لا يعتبر الإخوان الفوز بأي انتخابات يخوضونها أو الدخول في تحالفات كبري غاية أهدافهم فحسب، فمجرد المشاركة فيها، بغض النظر عن حظوظ المكسب أو الخسارة، إنما تعد فرصة ذهبية لارتداء ثوب المناضل والمعارض الأوحد علي الساحة السياسية المصرية وترسيخ أقوال الإخوان وشعاراتهم في الذهنية العامة. فضلاً عن الإيهام بتماسك الجماعة رغم الضربات القانونية والأمنية التي تتعرض لها من حين لآخر، وتجنب العزلة السياسية، خاصة في ظل النصوص الدستورية المقيدة لكافة الأنشطة السياسية المغلفة بغطاء ديني. الأمر الذي يعكس بوضوح أحد أهم محددات العقيدة الإخوانية النفعية التي ترتكز، حسبما يشير أكاديمي إخواني سابق، علي رغبة محمومة لشغل "الأمة" كلها عن الإخوان وبالإخوان.. ومن ثم "لا يكتشف أحد نقاط ضعفهم، أو يدقق أحد غيره في قائمة أخطائهم وخطاياهم"، وعليه يري نضال نعيسة، في تحليل قيم نشر بالموقع الإلكتروني "ميدل ايست اونلاين" قبل بضعة أسابيع "إن أي كلام عن تجديد الإخوان لخطابهم وانخراطهم بالمواطنة لا يعني شيئاً ما لم يترافق مع إجراءات عملية حقيقية وعلي الأرض، يتحولون بموجبه إلي تنظيم مدني وطني غير مذهبي ولا حصري، يوضحون من خلاله موقفهم من القضايا الإشكالية النصية الكبري التي لا يستطيعون منها الفكاك والهرب، فهي تحاصرهم، وتكبلهم وتمنعهم من تحقيق أي إنجاز في هذا الاتجاه، ومن دون التشكيك طبعاً، بنوايا البعض التي قد تكون حسنة وطيبة، ولذا فلا حل إلا بالحل واستبداله بتنظيم جديد قائم علي أسس وطنية لا مذهبية".. وهو ما يذهب إليه أيضاً القيادي البارز في الجماعة، المهندس خالد داود، والمعروف بانتقاداته المتكررة لسياسات الإخوان ومنهج عملهم في السنوات الأخيرة، بالتأكيد علي ضرورة تقديم أفراد الجماعة رؤي مغايرة لآليات تعاطيها مع العمل العام تضمن نقداً ذاتياً جادياً وشفافاً للجوانب السياسية والثقافية والفكرية بصورة دائمة من أجل محاولة تدارك الأخطاء والعيوب وإصلاح المسارات، مؤكداً بوضوح أن الجماعة التي تضيق بالنقد والمراجعات وتتستر علي الأخطاء بحجة سلامة الصف وحماية أسرار التنظيم وعدم فسح المجال للتصيد للجماعة من الحجج هي حركة تربي الفساد وتنميه في مؤسساتها وسلوكها حتي يقضي عليها.. وفي رؤية تحليلية للباحث في شئون الإخوان المسلمين، خليل العناني، فإن تحقيق مستقبل أفضل للجماعة سيظل مرتبطاً بمدي قدرتها علي تطوير خطابها السياسي بحيث تصبح أكثر انفتاحاً وديمقراطية.. وهو ما يعني أن تعيد الجماعة النظر في أطروحاتها الرئيسية وتغيير النقاط التي تثير ردود فعل غاضبة حولها وفي مقدمتها برنامجها الحزبي.. ومن الأهمية أيضاً إعادة النظر في الهيكل التنظيمي للجماعة.. وهو ما لن يتم دون تغيير اللائحة التنظيمية الحالية التي تثير العديد من الخلافات حول صلاحيات وسلطات مجلس الشوري العام ومكتب الإرشاد.. ناهيك عن ضرورة إتاحة الفرصة للجيل الإصلاحي من شباب الإخوان بالحصول علي مراكز تنظيمية داخل الجماعة بما يتيح تجديد الدماء وطرح أفكار جديدة وجريئة. كما يري أنه علي الجماعة أيضاً أن تحسم موقفها من مسألة الحزب السياسي.. لاسيما وأن كافة المؤشرات الحالية تعكس عدم وجود رغبة حقيقية لدي الإخوان لتعلن قيام حزب سياسي ليس فقط بسبب سوء الأوضاع السياسية.. وإنما بالأساس بسبب عدم حسمها للأمر داخلياً.. هذا إضافة لضرورة أن تحسم الجماعة موقفها من العلاقة بين الوطنية والأممية.. فالجماعة لا تزال حتي الآن تائهة بين أن تصبح جماعة وطنية مصرية ليس لها أجندة دولية أو أممية.. وبين أن تظل حركة دينية لديها أهداف عالمية.. كذلك فإن أحد الأمراض المزمنة في جماعة الإخوان هو عدم قدرتها علي بناء تحالفات سياسية دائمة مع العلم أن عملية تغيير عقلية الجماعة نحو الشفافية والانفتاح يتطلب أيضاً العمل علي تسهيل عملية اندماج الإخوان في الحياة السياسية المدنية والالتزام التام بمبادئ الديمقراطية والتعددية.. لكن الباحث يعود ليجزم بوضوح بأن الجماعة لن تكون قادرة علي إحداث أي تغيير حقيقي داخل التنظيم بسبب ضعف التيار الإصلاحي داخلها وعدم قدرته علي فرض رؤيته علي تيار المحافظين الذين يهيمنون علي التنظيم بشكل كبير.