لم أرها ولكننا نعرف أنها كانت مدرسة تخرج فيها الكثير من الفنانين الذين أصبحوا رموزا فيما بعد مثل فريد الأطرش وأسمهان ومحمد فوزي وتحية كاريوكا وعبدالمطلب وغيرهم.. وأعرف أنها كانت صاحبة كازينو تقدم فيه استعراضاتها وغناءها.. وأن الكوبري الذي يقطن في هذا المكان سمي باسمها. وأنها كانت متزوجة من نجيب الريحاني وانفصلا دون طلاق لأنه لا طلاق في الكاثوليكية. إنها بديعة مصابني »ملكة الليل« في الأربعينات والخمسينات، طبعا لم نعاصر هذه المرأة التي تصورت أنها شخصية قوية جميلة وجذابة. وسيدهش القارئ حينما أكتب عنها ولم أرها فهي امرأة من الزمن الماضي.. لكني رأيتها في شيخوختها وجلست معها وأجريت حديثا فحينما صحبتنا أم كلثوم لتحيي حفلات في مهرجان بعلبك من أجل المجهود الحربي.. وكان ذلك في يوليو من عام 1968.. ومعنا المصور فاروق إبراهيم.. عرفنا أن بديعة مصابني بعد أن هربت من مصر والعودة إلي لبنان.. أقامت مزرعة في شتورا بين بيروت ودمشق لبيع منتجات الألبان والدواجن يمر عليها المسافر كمحطة ليأخذ وجبات خفيفة. وفي طريق عودتنا بعد صحبة أم كلثوم علي دعوة غداء في شتورا توقفنا أنا وفاروق لنلتقي ببديعة مصابني في مزرعتها.. وفوجئت بامرأة في العقد السادس من عمرها لاتزال تحتفظ ببعض الجمال امرأة مرحة استقبلتنا بابتسامة.. قدمت لها نفسي وطلبت أن أجري حديثا معها وأعرف بعض تفاصيل حياتها وحين انتهت من الحديث أهدتني مذكراتها التي أرفقتها بإهداء لي باسمها بخط عربي ركيك. لقد عانت بديعة منذ طفولتها من الفقر والتعذيب.. فقد كان أبوها يمتلك مصنعا للصابون ومن هنا جاء اسم مصابني لكن المصنع حرق عن آخره.. ومات الأب نتيجة ذلك.. وأصبحت الأسرة أفقر من الفقراء.. وتبرأ منهم الأقارب الأغنياء.. »في هذا الوقت قضي علي مستقبلي وأنا طفلة عمري 7 سنوات وذلك حين غرر بي صاحب خَمَارة كان أخي يمضي وقته فيها.. وأنقض عليّ كالذئب المفترس وأنا لا أقوي علي حماية نفسي وأخذت أبكي بلا جدوي.. وفيما علمت والدتي بذلك أخذت تولول وتلطم خديها وتصرخ وتشد شعرها وتمزق ثيابها.. وأخذت تضربني بالعصا لدرجة أن كل الجيران عرفوا ذلك.. وكانت الفضيحة.. أخذ كل منهم يروي قصة.. ولو أن أمي الجاهلة الأمية مافعلت ذلك ماكانت الفضيحة.. ومنذ ذلك الوقت كانت أمي تضربني بقسوة وتربطني وتتركني.. ولا تناديني إلا باسم »الملعونة«.. والآن وبعد 55 عاما أحمل إليها قسطا كبيرا من المسئولية فهي التي أفسدت حياتي وأصبحت عارا بين كل الجيران. هربت إلي المنزل وذهبت الي الدير.. وعرفت هي وجاءت لتأخذني لأكمل مرارة العيش والفقر معها والتعذيب المضني.. وبلغ بنا العوز والحاجة إلي الشحاتة والتشرد.. وذهبنا أنا وهي إلي أختي التي تقطن في قرية بعيدة سائرين علي الأقدام.. فإذا ما حل الليل نلجأ إلي من يفتح لنا بابه لنبيت أو يعطينا كسرة من الخبز.
كانت تتمتع بالجمال والصوت فجاءت إلي مصر بعد كثير من الأحداث و»المرمطة« لتجرب حظها ترقص الرقص الشرقي الممزوج بالتركي والأسباني وأعجب الناس بها حينما قدمت إحدي نمرها علي أحد المسارح الرخيصة.. لكن الأم لم ترحمها فعادت إلي بلادها بالشام.. أوصلتها بديعة إلي القطار من القاهرة إلي بيروت وهربت منها وبدأت تتدرج سلم النجاح من مسرح إلي مسرح.. والتقت بنجيب الريحاني الذي أعجب بفنها.. وسافر معها إلي لبنان وفلسطين لإقامة مسرحياته التي تتخللها بالاستعراض والرقص.. لكنها فشلت فشلا ذريعا.. وأقامت بديعة حفلات في مدينة حلب المحبة للفن والغناء ووجدت استحسانا كبيرا من الجمهور.. وبلغ أجرها ثلاثمائة ليرة ذهبية.. تقول: »طلبني نجيب الريحاني لأمثل معه علي المسرح مقابل ستين جنيها مصريا.. كان هذا حلم حياتي أن أمثل مع هذا العبقري العظيم لكن ستين جنيها لاتكفي لنفقات فندق سان ستيفانو الذي كنت أقيم فيه.. ومع ذلك وافقت.. فجميع الطبقات تقدر مواهبه وفنه.
أعجب الجميع ببديعة علي المسرح.. وتزوجها الريحاني.. »لا أحد يعرف الريحاني مثلما عرفته أنا ولا أن يقاسي مثل ماقاسيت من حزن وفرح.. من مآس ومهازل.. نجيب الريحاني عبقرية لم تحدث.. أحببته واحترمته علي المسرح.. لكنه كان يعيش حياة بوهيمية.. يسهر طول الليل وينام طول النهار.. لايفكر إلا مايعود عليه بالنفع ولا يبالي بما قد يحصل لغيره.. كان إذا ضاقت بوجهه الدنيا لايتورع عن الاستدانة من أي مكان.. وكان ذلك من السهل عليه لأنه محبوب من الجميع وما أن يقبل موعد السداد حتي يتواري عن الأنظار«. مضت الحقبة الأولي من حياتي مع الريحاني تلك الحياة التي كان يظنها الناس نعيما متصلا.. ولم يكن أحد منهم يدرك ماكانت تلك المظاهر الخداعة تخفي من الخيبة والألم.. كانت طباعنا مختلفة تماما والأفضل أن يسير كل منا في طريقه دون أن نتنكر لديننا لكي لايسخر الناس منا.. وليعمل كل منا بمفرده..«.
أما المرحلة الثانية فهي إقامة كازينو.. وذلك منذ إعلان الحرب العالمية الثانية.. وبدأت مرحلة جديدة في حياة مصر.. إذ كانت الجيوش البريطانية قد أقبلت عليها بكثرة.. وحفلت صالتها بالضباط الانجليز وبدأت تنتعش.. وكان كازينو بديعة هو الأشهر والأحسن لدرجة أنه سمي الكوبري الكائن بجواره باسم كوبري بديعة.. ولايزال بعض الناس من الزمن الماضي يطلقون عليه حتي الآن هذا الاسم. »كانت الجاليات الايطالية واليونانية والفرنسية والانجليزية تعمل وتربح في وقت كانت البلد تحتاج إلي الأموال إثر الحرب.. فأخذت مصلحة الضرائب تفرض الضرائب التعسفية.. دون دراسة للدخل والمنصرف أفلس علي إثرها البعض وهاجر بعضهم إلي بلاده.. كنت أنا من بين الذين فرضت عليهم الضرائب مبالغ كثيرة لا تتناسب مع الدخل.. لكني لم أتهرب من دفعها عن طيب خاطر في العام الأول.. وفي العام التالي دفعت الضرائب ولم يعطوني وصلا بذلك بعد أن أهمل محامي وخبير الضرائب طلب المخالصة.. ولم يخطر ببالي أنني سأدفع ثمن إهمالهما«.
كانت بديعة موعودة بأن يستغلها الرجال الطامعون في ثروتها ومنهم ابن شقيقتها الذي كان مسئولا عن إدارة الكازينو والدخل الذي يدره واكتشفت أنه انتهز فرصة سفرها وباع الكازينو لإحدي الراقصات »ببا« هذا الكازينو الذي كلفته خمسين ألف جنيه ولإعادته كلفها الكثير.. كانت الجيوش قد بلغت الرحيل وانتشرت أزمة خارقة بعد أن كان الكازينو يضيق بالرواد أصبح شبه مهجور لكن بديعة لم تيأس وعملت المستحيل كي تحتفظ بثقة الجمهور.
في أحد الأيام كنت جالسة في الكازينو وإذا بنجيب الريحاني يحضر علي غير موعد فأسرع الجمهور لاستقباله بالتصفيق الحاد.. وحضنني وسرنا معا وزرنا كل مكان في الكازينو.. وجلس ليستريح.. قدمت له سيجارة مع فنجان القهوة فابتسم بمرارة.. السيجارة ممنوعة ألم تسمعي أني كنت مصابا بالذبحة الصدرية.. وكدت أودع الدنيا دون أن أودعك وطلب مني أن أعود إليه.. قال: »ألا تريدين زيارة الفيلا التي أقمتها في حدائق القبة؟ »وفي صباح اليوم التالي ذهبت مع نجيب إلي الفيلا كانت جميلة ورائعة واسترعي انتباهي حادثة بسيطة فحينما كان عامل الموزاييك يصف الحجارة الصغيرة علي أعمدة قال له نجيب »إيه ياأسطي أنت حتخلص إمتي إن شاءالله.. قال له دي عملية دقيقة ياأستاذ وتحتاج إلي وقت.. فقال له يظهر أني حموت قبل ماتنتهي! كان آخر لقاء لي مع الريحاني.. ففي إحدي الأمسيات صعد إلي المسرح وهو يترنح من شدة التعب لكنه تمالك نفسه.. وكل من رآه قال إن الريحاني لم يمثل في حياته مثل تلك الليلة.. ولم يضحك الناس كما أضحكهم من قبل أن يفارقهم إلي الأبد وأخذ يحيي الجمهور الذي انساق في عاصفة من التصفيق.. وعندما أسدل الستار ارتمي ونقلوه إلي المستشفي الايطالي.. وذهبت لأراه في المستشفي لكنه كان قد فارق الحياة. لم أتوقع أن أشاهد جنازة واحدة بمثل هذه الروعة التي مشي فيها حكام وفنانون وأدباء.. وتناولت الأقلام جميع أفلامه بالتحليل والتبجيل علي ماقام به الريحاني من تضحيات في سبيل خلق مدرسة جديدة في المسرح العربي. »ولما كثرت الضرائب التعسفية علي فكرت في الهرب ساعدني رجل جشع مقابل ماكان معي من مال.. ولم يعد معي سوي الستر ركبت الطائرة وأنا أنظر من نافذتها إلي مصر بحسرة وبكيت ففيها كانت شهرتي.. وفيها كل ذكرياتي منذ وطئت قدماي إليها.. وكنت قد هربت مصاغي من قبل.. واسترجعت الجنسية اللبنانية. وبعد يومين صدرت »أخبار اليوم« تتصدر عناوينها الرئيسية »فرار بديعة مصابني« وتبعتها الصحف الأخري.. كل يحلل علي هواه.. وكانت هذه نهايتها.. حيث تقيم في مزرعتها.. وتستقبلك بالود والترحاب وتقدم لك ما تحتاجه من الوجبات الخفيفة.