إذا كان الطوب الأحمر يستمد مكانته من قصر استخدامه في تشييد المعابد والمقابر في مصر القديمة، بعد أن حرم عامة الشعب أنفسهم من بناء منازلهم به، اعتقادا منهم أنه لايصح أن تكون بيوتهم مثل دار الخلود التي يسكنها الإله ابن الفرعون! وقد استمر هذا الأمر آلاف السنين.. لكن يبدو أن الحرمان الطويل دفع بالمصريين البسطاء إلي بناء بيوتهم بالطوب الأحمر (دون بياض) منذ عشرات السنين.. هل بسبب اختفاء الفرعون وبيته الكبير وبذلك أصبح لهم الحق في استخدامه لإقامة مبانيهم ومنشآتهم؟ أو ظنا منهم أن بيوتهم لاتقل منزلة عن تلك المعابد والجبانات!. لكن تبقي الأسباب الحقيقية وراء استخدامه بهذه الصورة السيئة التي تفتقد إلي الذوق العام والنسق الحضاري. وهذا التحقيق يكشف كيف فقد الطوب الأحمر مكانته علي يد المصريين في السنوات الأخيرة. يمثل الطوب الأحمر أحد أقدم المواد المستخدمة في البناء منذ بداية تاريخ البشرية.. والطوب لفظ مأخوذ عن اللغة المصرية القديمة (دوب) ثم حرفت ونظقت طوب وكان يصنع من طمي النيل المتوافر بكثرة في البيئة المحيطة بالمصري القديم ورغم ذلك رفض لمدة تزيد عن خمسة آلاف سنة استخدامه في بناء منزله، اعتقادا منه أن دار الخلود ليست في الحياة الدنيا ولكنه اكتفي ببناء قصر الفرعون أو البيت الكبير بالطوب الأحمر والحجر وذلك لأن ساكنه الإله وكذلك بني المصري القديم المعابد والمقابر بالطوب الأحمر، أما منزله فبالطوب اللبن! ولوحدات البناء من الطوب الأحمر عدة مزايا خصائص أولها كونها مصنعة من مادة موجودة في الطبيعة مع سهولة تشكيلها بعدة صور ومقاسات، إضافة إلي قوتها ومكانتها وقدرتها علي تحمل الحرارة، علاوة علي تجانسها في البناء مع المواد الأخري مثل الأحجار والأخشاب. وقد خضع الطوب الأحمر ككل شيء من نتاج الإنسان إلي سنة النشوء والارتقاء وتنوعت أوصافه وأشكاله باختلاف المكان والزمان وأسهمت الثقافة والذوق للمصريين في ذلك ولكن بالرغم من كل مظاهر الاختلاف فإن أوجها من الشبه تظل قائمة بين قوالب الطوب الأحمر عبر العصور. وذلك أن فنون العمارة كانت تتسرب من بلد لآخر عبر الحدود ويجري اقتباسها وتطويرها قليلا أو كثيرا.. فكما يقول الأستاذ محمد التهامي أبوالعينين مدير عام آثار رشيد أن توفر الطمي كان السبب وراء انتشار صناعة الطوب (الآجور) في المدن المصرية والتي كان يراعي أن تتم صناعته من طينة نقية خالية من الشوائب ومضغوطة جيدا، كما كان يعاد حرق كميات من الطوب حتي يتحول لون وجهها إلي اللون الأسود وكانت تستخدم في واجهات العمائر بالتبادل مع قوالب الطوب الأحمر، كما نحت وجه الطوب، فأطلق عليه الأهالي (النجر) أي المنحوت ولذلك سمي هذا النوع من الطوب بالمنجور والذي استخدم بلونيه الأحمر والأسود مع المونة المكونة من القصرمل (خليط من البوص المحروق الناعم والحمرة المتخلفة من حرق الطوب الأحمر) والجير السلطاني في بناء العمائر مع استخدام الجبس لتنفيذ اللحمات البارزة بين مدامات الطوب. كما استخدمت الميد الخشبية التي تتخلل الجدران لتقويتها وهذا العنصر استمد من العمارة الساسانية في إيران. وقد عرف استخدام قالب الطوب المنجور بلونيه الأحمر والأسود كعامل زخرفي ومعماري في نفس الوقت منذ وقت مبكر في العمارة المصرية. كما يؤكد أبو العينين وذلك في واجهات المباني وخاصة في مداخل العمائر الدينية والمدنية.. وقد انتشر هذا الأسلوب المعماري في جميع عمائر الوجه البحري في العصر العثماني وخاصة في رشيد وفوة ودمياط، والذي يعتبر استمرارا لأسلوب التضاد اللوني الذي ظهر بالعمارة الرومانية والبيزنطية ويتلخص في اختلاف لوني مواد البناء وهذا يتضح جليا في أبراج حصن بابليون بمصر القديمة. إلا أن العثمانيين قاموا بتطويره واستخدموا الطوب في أعمال الزخرفة وأضافوا للجدران زخارف الجبس وهذه الطريقة في فن العمارة، عرفت في العمائر التركية منذ أوائل القرن ال 11 الميلادي. والفرق شتان مابين استخدام الطوب في عمائر العصر العثماني وما يحدث الآن في الوقت الراهن.. كما يري محمد أبو العينين ففي السابق تم تطويره واستخدامه كعنصر جمالي للارتقاء بالعمارة، أما في العصر الحديث لم نقتبس من الحضارات المجاورة إلا المستخدم في العمارة الخديوية التي استمدت عناصرها من فنون عمارة عصر النهضة في إيطاليا وفرنسا وانجلترا ويظهر هذا بوضوح في طرز وزخارف قصور الأمراء والباشوات من أسرة محمد علي حتي الملك فاروق وذلك نتيجة البعثات العلمية من مهندسين وفنانين إلي تلك البلاد. ولكن المؤسف استحواذ الأسرة العلوية علي استقدام المهندسين الأجانب لتقليد الفنون والعمارة الراقية في بلادهم وبالطبع كان لديهم المال والجاه وتركهم الشعب يبني عمائره بأدواته البسيطة والفقيرة. عكس عمائر المدن في العصر العثماني التي تكاد تتشابه في الطرز المعمارية مع مثيلتها في البلدان المجاورة. ولم يقتصر الأمر علي عمائر الأسرة العلوية كما يقول الدكتور مصطفي غريب أستاذ العمارة بكلية الهندسة جامعة الأزهر ولكن استخدم الطوب الظاهر النبيتي (بدون بياض) في واجهات عمارات ميدان مصطفي كامل بالقاهرة وهو مستورد من أوروبا في أوائل القرن ال 19 الميلادي وهو مأخوذ من طرز العمارة الإنجليزية وأيضا دمج هذا الطوب النبيتي الظاهر مع عنصر الخشب في واجهات مباني بورسعيد والإسماعيلية والسويس القديمة. وبالطبع كلها بدائل معمارية ترتبط بالارتفاعات الأقل.. أما العمائر التي تصل ارتفاعاتها ل 14 طابقا، فمن الصعوبة بمكان استخدام الطوب الظاهر كعنصر زخرفي، فسيكون شكله قبيحا ولكنه يليق بقرية سياحية مبانيها من دور أو اثنين. وجاءت فترة علي المصريين أول ما استحدثوا الطوب الرملي والطوب الوردي أن استخدموهما في واجهات المباني.. كما اعتمدت هيئة الأبنية التعليمية الطوب الوردي كواجهات خارجية في مباني المدارس (بدون بياض) إلي جانب طلاء القواعد والكمرات باللون الأبيض، وباستخدامه يتم ضغط تكاليف البناء، كما أن وجوده يمثل عنصرا زخرفيا وجماليا مقبولا نوعا ما. أما ترك واجهات المنشآت علي الطوب الأحمر، فيرجعه الدكتور غريب إلي أن أصحاب هذه المنشآت يبنونها علي مراحل مختلفة، حسب قدرتهم المادية بمعني مرحلية البناء وبالتالي تأتي الاحتياجات في المرتبة الأعلي والأرقي وتليها الجماليات التي تتحكم فيها الماديات ويكفي وجودها داخل المنشآت دون اعتبار للمنظر الخارجي. إلي جانب انخفاض دخول أصحاب المباني مما يجعلهم يكملون الضروريات وحين ميسرة يزينون ويجملون الواجهات ولكن يكونون قد باعوا هذه المباني أو تم تسكينها، فينتهي الأمر إلي تركها بدون بياض وخلاص!! وبالطبع من ضمن اللخبطة في حياتنا أن الطابع العمراني للمدن تتحكم فيه الإمكانيات المادية لأصحاب المباني. بالإضافة إلي قصور الغطاء التشريعي وذلك من خلال افتقاد قانون البناء للقواعد الملزمة التي تجعل صاحب المنشأة يشطبها من الخارج، كما أن الأحياء والإدارات الهندسية بها تهتم بعروض المناور ونسبة البناء علي الأرض والارتفاعات ولكنها لاتهتم إطلاقا بالواجهات الخارجية ولاتعطي مخالفة لمن لم يبيض المبني خارجيا أو للواجهات التي لاتتوافق والطابع العمراني للمدينة. ونحن كمعماريين كما يوضح الدكتور غريب نجاهد لتطبيق القانون بصورة رادعة ضد المخالفين لقواعده ولكن الغطاء القانوني عندنا قاصر وقانون البناء سيكون أشد تنظيما إذا تم التأكيد علي استكمال المباني من الخارج ويقترح ربط دخول المرافق (كهرباء ومياه) إلي المنشآت بعد الانتهاء من تشطيب الواجهات لحماية وتقوية هذه المباني.. ويتفق الدكتور محمد عبد الباقي أستاذ التخطيط العمراني بهندسة عين شمس ورئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية مع رأي الدكتور مصطفي الغريب في إن انتشار استخدام الطوب الأحمر في الواجهات (بدون بياض) في المناطق العشوائية يعود في الأساس إلي قلة الإمكانيات المادية لأصحاب تلك العقارات وهدفهم من وراء ذلك التوفير في مصاريف البناء من خلال إلغاء البياض الخارجي، رغم أنه في العادة تلاصق المنشآت في هذه المناطق مع بعضها البعض الأمر الذي يلغي تبييض الواجهات الجانبية والخلفية ومع ذلك تترك الواجهة الأمامية علي الطوب الأحمر. وللأسف الشديد .. فإن هؤلاء الملاك بالإضافة لكونهم يهدفون للربح وخفض التكاليف إلا أنهم في الوقت نفسه ينقصهم الذوق الهندسي والمعماري وعدم اهتمامه بالنواحي الجمالية التي ينظر إليها كرفاهية يمكن الاستغناء عنها. وإذا كانت الدولة تسعي للحفاظ علي النسق الحضاري للمدينة فإنه من باب أولي أن تهتم بثقافة المواطنين وتوعيتهم، حيث إن المجتمع الجاهل وغير المثقف تنعكس توجهاته وأفكاره علي عمارته التي هي مرآة لهذا المجتمع. كما أن مستوي الحرفيين في مصر أصبح متدهورا كما يقول الدكتور عبدالباقي والسبب عدم وجود مراكز تدريب حرفي تؤهل العمال علي الجديد في مجال البناء والتشييد والدليل علي ذلك أننا الآن نتوجه لاستخدام طوب مسامي خفيف واقتصادي وعازل لكل من الحرارة والصوت ومقاوم للحريق ويعتبر بديلا سحريا للطوب الأحمر فهو يوفر 15٪ من الحديد والخرسانة في الهيكل الإنشائي وهذا يمثل مبلغا كبيرا في تكاليف البناء، كما يوفر من 15 : 20٪ من إجمالي التكاليف اللازمة للمنشآت.. ولعدم معرفة البنائين به يتم الإحجام عن استخدامه، رغم وجود مصنعين لإنتاج هذا الطوب في مصر.. أما المهندس صلاح حجاب الخبير الإسكاني فلا يلقي باللوم علي أصحاب هذه المباني، فهؤلاء عايزين سترة وحاجة تلمهم وكويس قوي إنهم بنوها هكذا، عندما قصرت الدولة في بناء وحدات سكنية لهم أو توفير أراض مخططة ومرافق لهم. وأرجع السبب لافتقارهم للذوق العام العمراني ليس نتيجة للفقر فقط ولكن لعدم وجود نماذج ناجحة بسيطة تشجع علي التقليد والاقتباس.. وهناك أجهزة في الدولة مثل المركز القومي لبحوث الإسكان والبناء مفروض أن يقدم مشروعات إرشادية لذوي الدخول المنخفضة لمحاكاتها ويمكن أن تشكل وجدانه وذوقه العام. بينما تري الدكتورة ماجدة متولي أستاذ الإسكان والتنمية العمرانية بالمركز القومي لبحوث الإسكان والبناء أن استخدام الطوب الأحمر في واجهات المباني (بدون بياض) لانجده في المناطق الحضرية وإنما العشوائية وغير الرسمية لأن منظره سييء ويقلل من قيمة العقارات، فلابد من تشطيب الواجهات لأنها وراء بيع الوحدات بنظام التمليك. كما أن الطوب الأحمر صناعته تدهورت وصغر حجمه ولا تجدين طوبة مقاسها مثل الأخري، كما أن الحواف غير متساوية وهذا النوع من الطوب الرديء يفرول مع مياه المطر ولابد من البياض الخارجي لحماية المبني وإطالة عمره.