لا شيء أكثر أهمية عند أي إنسان من لقمة عيشه وحريته، وفي عهد مبارك أوصدت الأبواب في وجه الشرفاء، حرموا من حريتهم وحوربوا في أرزاقهم وكان لابد أن ينتفض المصري في النهاية لكي يحصل علي العيش الكريم والحرية مثل باقي شعوب الأرض. لكن البعض هذه الأيام اختزل الأمر في الصراخ عبر الفضائيات والصحف ضبابية التمويل في ضرورة أن يأتي الدستور أولا، لأن أي بناء لا يمكن أن يقوم إلا علي قواعد راسخة ومتينة بغض النظر عن الآثار الخطيرة في استمرار حالة الفوضي وعدم الأمان ومخاوف الانهيار الاقتصادي التي يشعر بها المصريون ورغبة القوات المسلحة في العودة لثكناتها ، لكن أصحاب الياقات البيضاء من الذين يمارسون رياضة العدو بين القنوات الفضائية يبدو أنه موسمهم المفضل لإثبات قدراتهم علي الحوار وإثبات وجهات نظرهم وحكمتهم البليغة والنادرة، وإذا خاطبهم الجاهلون الذين هم باقي الشعب المصري لم يقولوا سلاما!! ومشكلتهم أنهم يعيشون في عزلة عن الشعب الذي ينتمون إليه في غرفهم المكيفة معزولة الصوت ويحاربون طواحين الهواء ، فهل نزلوا إلي العشوائيات ليروا كيف يعيش الناس في عشش الصفيح وما أكثرها بفضل سياسات الأب الحكيم ولجنة الابن النابغة التي أفقرت غالبية المصريين وأثرت القلة من المتلحفين بالنظام السابق ، وهل هبطوا إلي القري ليست الأكثر فقرا بل الأقل منها ليروا من خلف نظاراتهم ذات الماركات العالمية كيف يعيش الفلاح المصري وكيف تدهورت أحواله ، هل طافوا بالطرقات في مصر ليشاهدوا مئات الآلاف من أطفال الشوارع ضحايا ماما سوزان ورعايتها المتكاملة ، هل ذهبوا للمستشفيات ليروا مآسي المرضي من قائمة طويلة من الأمراض الفتاكة، وهؤلاء أكثر حظا ممن لم يعرفوا الطريق لهذه المستشفيات لكن النهاية واحدة ، هل جربوا الوقوف في طوابير الخبز والمعاشات وتعذبوا في وحدات المرور وأقسام الشرطة والمواصلات العامة وكل ألوان شظف العيش في مصر علي مدي ثلاثين عاما ، هل جربوا أزمة العامل والموظف البسيط عندما لا يجد ما يسد رمق أسرته طوال أيام الشهر والبطالة التي تعاني منها البيوت المصرية وانسداد آفاق المستقبل أمام أبنائها. هذا هو الميراث الثقيل والكريه الذي تركه مبارك ونظامه والذي لايختلف اثنان علي ضرورة محاكمة كل رموزه الفاسدة، لكن لابد أن نتكاتف ونتضامن معا لعبور هذه المرحلة الحرجة والمصيرية للانطلاق نحو مستقبل أفضل إن لم يكن لنا فلأبنائنا ولايمارس البعض رياضة مصارعة الديوك وكأننا نعيش في ترف لا نشعر به، كنت أتصور أن يجتمع مفكرو وعلماء مصر لوضع رؤية لتطويرالتعليم والبحث العلمي والصحة والإعلام ، وأن يجتمع خبراء الاقتصاد لوضع استراتيجية للخروج من أزماتنا الحالية برؤية وطنية ومخلصة للوطن وتقديم خطط وبرامج لزيادة الإنتاج ومحاربة الفقر وإزالة العشوائيات وتحسين أوضاع الريف وتعمير الصحاري، فلسنا أقل من ألمانيا والصين واليابان وكوريا وغيرها من البلدان التي دمرتها الحروب وأعادت بناء اقتصادها من جديد. لكن شيئا من كل هذا لايحدث لأن النخبويين اختاروا طريقا آخر غير طريق الشعب الذي يدعون دفاعهم عن مصالحه، فهل الدستور أولا أهم من كل القضايا الحياتية التي تشغل وتؤرق الناس، وهل نعيش في مناخ الفوضي وفقدان الأمن طويلا لعدم وجود حكومة منتخبة وبرلمان يراقب أداءها ورئيس مدني ينتخب لأول مرة بكل حرية وشفافية أم إنكم تعلقون فشلكم القادم في كسب الشارع علي شماعة قانونية ودستورية وسلامة إجراءات الانتقال إلي عهد الحرية ويقبل بعضكم المال الملوث من أمريكا وغيرها ثم تدافعون عن حقوق الإنسان (اعتراف السفيرة الأمريكيةالجديدة آن باترسون في الكونجرس بدعم الديمقراطية في مصر بمنحة قيمتها 40 مليون دولار) وهجمة القنوات الفضائية الجديدة في غيبة أي صورة للرقابة علي جهات تمويلها خاصة التي تضم الفلول الإعلامية للعهد السابق بأموال الأثرياء الذين تحولوا بقدرة قادر لثوريين وأنهم كانوا معارضين لمبارك بينما يلاحقهم القضاء والمليارات التي حصلوا عليها من البنوك علي طريقة الدليفري بمكالمات تليفونية!! ثم لماذا تعيدون إنتاج واستنساخ عهد مبارك بمحاولتكم الهيمنة علي إرادة الشعب ، ألا ترون التجارب الديمقراطية في البلدان المتقدمة وكيف تتغير الحكومات وتصعد وتنهار شعبية الأحزاب ويتم تداول السلطة فيها، والفيصل في النهاية هو صندوق الاقتراع أم إنها ديمقراطية ناجحة بكل المقاييس إذا جاءت بكم وفاشلة إذا جاءت بغيركم أياً من كان !! ونقول في النهاية إنه لن يصح إلا الصحيح، والشعب قد تكون نسبة كبيرة منه من الأميين لكنهم ليسوا من فاقدي الوعي والحس السياسي فلديهم القدرة علي أن يختاروا من يرون أنه يحقق مصالحهم ويملك حلولا وبرامج لإصلاح أحوالهم وليس هؤلاء المعزولين والمتوحدين مع أنفسهم من السائرين نياما ، وأفضل الأشياء هو التحول عن هذه القنوات التي يواصلون الصياح فيها ومشاهدة الأفلام الهندية التي رغم حشد المصادفات والمتناقضات التي تحفل بها لن تكون في حجم مايقوله ويطرحه هؤلاء القابعون أمام الكاميرات والكتاب من مكاتبهم.. فمصر هي من يجب أن تكون أولا أيها الحكماء !!