قد تعتقد أن التحليق في الهواء وتسلّق الأبنية والقفز علي الأسوار وتحدي قوانين الجاذبية الأرضية ضرب من الجنون، لكن لاعبي ال"باركور" يرونه عالمهم الذي يحولونه بكل ما يحويه إلي ملعبٍ مفتوحٍ يتخطون فيه كل العوائق ويطيرون في الهواء من مكان إلي آخر بأكبر قدر من السرعة والسلاسة. مشاهدتك للاعبي الباركور وهم يقومون بحركاتهم البهلوانية مغامرة في حد ذاتها، عليك أن تحبس أنفاسك وتحكم السيطرة علي إيقاع نبضك وتحاول جاهداً ألا ترمش عيناك كي تنال جرعةَ الدهشةِ كاملةً دون نقصان. هذا ما حاولت القيام به وأنا أرقب لاعبي فريق "باركور إيجيبت" أثناء تدريبهم في الصالة الرياضية بمدرسة السعيدية. تبدأ دهشتك بالصالة التي تكتظ بلاعبين من جميع الأعمار. "رياضة الباركور صالحة للجميع علي عكس مايظن البعض" يبادرني كابتن ناصر عيد مؤسس "باركور إيجيبت" أول فريق لممارسة هذه الرياضة في مصر. يتابع كابتن ناصر: لم أكن أعرف أن هناك آخرين مثلي في مصر يعشقون هذه الرياضة، فلم يكن هناك كيان منظم يجمع ممارسيها. وفي عام 2008 أنشأت صفحة علي "الفيس بوك" لمحبي الباركور، تواصلت معهم وقررت أن أبدأ في تدريبهم وأكوّن فريقا. ومن اليوم الأول واجهنا صعوباتٍ كثيرة في إيجاد أماكن للتدريب الداخلي، الإجراءات الحكومية كانت تسد علينا الطريق، فهذه الرياضة غير معترف بها في مصر حتي الآن، ولكن بفضل إصرار الشباب توسّع الفريق وأصبح لنا فروع عدة في مدينة 6 أكتوبر والمعادي وحلوان والعبور وفي العديد من المحافظات. يغوص بنا كابتن ناصر إلي جوهر رياضة الباركور والفلسفة التي تقوم عليها: "الباركور رياضة غير تنافسية، المنافسة فيها لا تكون مع الغير بل مع النفس أي تنحصر في تحدي اللاعب نفسه ليتخطي أي حواجز أو موانع في طريقه مهما بلغت صعوبتها بسرعة وخفة ورشاقة وبأقل جهد، وهي تحرّض العقل علي الابتكار، فنفس الحاجز يمكن اجتيازه بطرقٍ لاحصر لها، لكل لاعبٍ شخصيته وتفرده في ذلك". أما المفاجأة التي أشار لها كابتن ناصر، فهي اقتراب موعد تأسيس أول فريق باركور للسيدات، وهو ما لم يكن متاحا من قبل لأنه لم تكن لدينا مدربة في مصر. يصف لي أحمد رضا المُلقب ب"زورو" علاقته برياضة الباركور وهو من أوائل ممارسيها في مصر. يُخبرني أنها تمده بالحرية المطلقة، تحرر جسده وعقله من كل ما يثقله. يتابع: أشعر وأنا أؤدي قفزة صعبة أو حركة جريئة أنني أملك العالم بأسره لأنني أستطيع الطيران. يُخبرني زورو أن احترافه الباركور فتح له أبوابَ رزقٍ لم تخطر علي باله من قبل، يقول: منتجو الإعلانات وصناع السينما يستعينون بنا لتنفيذ المشاهد التي تتضمن حركاتٍ خطِرة سواء في أفلام الأكشن أو غيرها، كنت "دوبلير" الفنان أحمد السقا في العديد من الأفلام من ضمنها فيلم "الجزيرة"، وشاركت في فيلم "فاصل ونواصل" للفنان كريم عبدالعزيز، وفيلم "ساعة ونص" وغيرها من الأفلام. كما شاركنا في مهرجانات علي مستوي العالم، لكن المحزن أننا نُعامل هنا في بلدنا علي أننا خارجون عن القانون. يبادرني زورو وهو يبتسم مستدعياً موقفاً من ذاكرته القريبة: أحد المصورين الأجانب جاء إلي هنا من شهرين ليصور فيلما وثائقيا عن الباركور في مصر، وكان التصوير الخارجي يتضمن عددا من الأماكن العامة من بينها ميدان التحرير، وبمجرد أن بدأنا تنفيذ المشاهد فوجئنا بمجموعة من رجال الأمن تصادر الكاميرا من المصوّر وتلقي القبض علينا وتقودنا إلي قسم "قصر النيل" علي أننا مخربون، جلسنا يوماً كاملاً خاضعين للتحقيق، لم يفهموا طبيعة الباركور إلا بعد عناء وأخلوا سبيلنا.