وسط فوهة الفوضي التي تشد إليها دول المنطقة تباعا، وترنح الاقتصادي المصري، ومواجهة مفتوحة مع عناصر إرهابية، لم يعد هناك ما يشغل بال البعض بعد انتهاء مولد مسلسلات رمضان، إلا متابعة المسلسل الجديد الذي يتصدر بطولته الكاتب الصحفي والإعلامي إبراهيم عيسي مناصفة مع شيوخ الأزهر والسلفية، حول قصة قديمة مكررة منذ القرون الإسلامية الأولي عنوانها الأبرز عذاب القبر والثعبان الأقرع، وجوهرها الصراع المستمر بين التجديد والتقليد، بعدما تحول إنكار عذاب القبر إلي ثعبان يثير مخاوف الفقهاء. أثار إبراهيم عيسي موجة من الجدل بعدما فتح ملف "عذاب القبر" في إحدي حلقات برنامجه "مدرسة المشاغبين"، حين قال: "يبدو أن الذين يريدون تخويف الناس زادوا فيها وعملوا فيها عذاب القبر، ودا كله عشان تخافوا، والثعبان الأقرع في التراث الفرعوني واليهودي، وفي ناس اخترعت ده لتخويف الناس"، نافيا فكرة عذاب القبر قائلاً: "النار كفاية لتعذيب الناس، وأكتر حاجة بتردع العصاة والكفار، وده مش رأيي أنا بس، مافيش عذاب قبر، وهناك ابن حزم الذي رفض القول بعذاب القبر، وفرقة المعتزلة المحترمة، ولو في عذاب قبر، ليه ربنا ماقلناش عليه؟!". شيوخ السلفية تلقفوا آراء عيسي وشنوا عليه هجوما وسط مطالب بإجباره علي التراجع عن تلك الآراء، بل وصل الأمر ببعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي إلي حد المطالبة بتكفير الكاتب الصحفي علي اجتهاداته، ثم أخذت مؤسسة الأزهر بزمام المبادرة، بعدما قرر الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر، تشكيل لجنة لدراسة حلقات البرنامج وجمع التصريحات ذات الصلة، للرد عليها، بينما قال مصدر بالمشيخة ل"آخر ساعة" إن الأزهر يدرس إجراءات الرد التي تبدأ ببيان رسمي يخرج عن مجمع البحوث الإسلامية يفند فيه تلك الآراء ويثبت عذاب القبر، علي أن تتلوها خطوات أخري. ودخل الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، علي خط الأزمة، بعدما أكد أن "المساس بثوابت العقيدة والتجرؤ عليها، وإنكار ما استقر منها في وجدان الأمة كعذاب القبر لا يخدم سوي قوي التطرف والإرهاب خاصة في ظل الظروف التي تمر بها الأمة، لأن الجماعات المتطرفة تستغل مثل هذه السقطات لترويج شائعات التفريط في الثوابت مما ينبغي التنبه له والحذر منه، ووقوف كل إنسان عند حدود ما يعلم، وعدم إقحام نفسه فيما لا يعلم وفي غير مجال اختصاصه". مضيفاً في بيان له: "إذا أردنا أن نقضي علي التشدد من جذوره فلابد أن نقضي علي التسيب من جذوره، فلكل فعل رد فعل مساو له في النسبة ومضاد له في الاتجاه"، خاصة أن "الأمة في غني تام عن إثارة مثل هذه القضايا الشائكة المثيرة للجدل والمستفزة لمشاعر الخاصة والعامة في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلي جمع كلمتنا معا في دعم قضايا العمل والإنتاج وترسيخ مكارم الأخلاق". بدورهم، تمسك علماء الأزهر الشريف بإثبات عذاب القبر، وعبر عن حالهم الشيخ عبدالحميد الأطرش، رئيس لجنة الفتوي السابق بالأزهر الشريف، قائلاً ل"آخر ساعة": "أجمع جمهور الفقهاء علي أن هناك عذاباً في القبر، واستندوا في ذلك علي العديد من الأدلة السماعية، لأن لا أحد ذهب إلي العالم الآخر ورأي ماذا يحدث في القبر وعاد ليحكي لنا، لذلك المعتمد في هذا الأمر الروايات السماعية عن رسول الله ([) التي نقلت إلينا عبر علماء الحديث. وأوضح الأطرش: "الرسول ([) كان يتعوذ من عذاب القبر وفتنة الحياة والممات، وحديثه إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه، وقوله: "ما رأيت منظرًا إلا والقبر أفزع منه"، وهو ما يتفق مع قوله تعالي: {النار يعرضون عليها غدوًّا وعشيًّا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} (غافر: 46) ففيها الدليل الدامغ علي أن عذاب القبر حقيقة وأن آل فرعون يعذبون في القبر قبل أن يعذبوا في اليوم الآخر. وأشار رئيس لجنة الفتوي السابق بالأزهر الشريف، إلي أن هناك إجماعاً بين المفسرين علي أن قوله تعالي: {ولنذيقهم من العذاب الأدني دون العذاب الأكبر} (السجدة: 21) يقصد بالعذاب الأدني عذاب القبر، وهو ما يوضح بجلاء أن عذاب القبر حقيقة لا خيال، ولا يمكن لأحد إنكاره بأدلة عقلية طالما أن الأدلة السماعية تعاضد التفسير لآيات القرآن، مضيفاً: "من ينكر عذاب القبر لا يمكن تكفيره إلا أنه يعد فاسقاً". إلا أن منكري عذاب القبر أكثر من أن يتم حصرهم في شخص إبراهيم عيسي، فمن قبل قال بهذا الرأي الشيخ محمد متولي الشعراوي أثناء تفسيره لبعض آيات القرآن الكريم، في فيديو يتداوله أنصار عيسي علي مواقع التواصل الاجتماعي، كما فند المستشار أحمد عبده ماهر، المفكر الإسلامي، في كتابه "أوهام عذاب القبر"، الذي قال ل"آخر ساعة": "خرجتُ أحاديث عذاب القبر وأثبتُ عدم صحتها وبينتُ تعارضها مع نصوص القرآن الصريحة، والتي لا تحتاج إلي تأويل من أحد، وعلي الذين يتحدثون عن وجود "عذاب القبر" عليهم أن يجيبوا عن سؤال واحد تطرحه سورة "الأعراف"، فهي تحكي عن رجال يجلسون علي الأعراف بين أصحاب الجنة والنار، لا هم مع هؤلاء ولا مع هؤلاء يرجون من الرحمن أن يدخلهم الجنة وأن يبعد عنهم عذاب الحريق. ويتابع ماهر: "السؤال الذي يطرح نفسه إذا كان رجال الأعراف ليس لهم مكان في الجنة أو النار؛ فما هو مصيرهم في القبر؟، هل يكونون بلا عذاب ولا ثواب في القبر؟، وهل يكذب مدعو وجود عذاب القبر قول الحق تعالي: {ولا تحسبن الله غافلًا عمّا يعملُ الظالمون إنما يؤخِّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} (إبراهيم: 42) فدلالة النص واضحة لاتحتاج إلي تأويل بأن الحساب مؤخر إلي يوم القيامة ولا عذاب أو ثواب قبل هذا اليوم". وأشار المفكر الإسلامي إلي أن أدلة مؤيدي "عذاب القبر" ظنية الدلالة، فأهم أدلتهم قوله تعالي: {النار يعرضون عليها غدوًّا وعشيًّا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} (غافر: 46) فهذه الآية التي يتصورون أنها تؤيد عذاب القبر لا شأن لها بعذاب القبر من قريب أو بعيد، وإنما هو تفسير استنتجه "فقهاء الغلظة" الذين لايعرفون الفرق بين الساعة والقيامة، لذلك جاءت تأويلاتهم ودلالاتهم هزيلة ومخالفة وينتج عنها تضارب مع الآيات القرآنية. ويستكمل عبده عرض حجته قائلاً: "انظر مثلاً لقوله تعالي: {وإذا الرسل أقّتت، لأي يوم أُجلت، ليوم الفصل، وما أدراك ما يوم الفصل، ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات: 11-15) فهذا نص صريح علي تأجيل الحساب إلي يوم الفصل، وهو ما نجده في قول الحق تعالي: {يوم هم علي النار يفتنون، ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون} (الذاريات :13-14) وقوله تعالي: {إنك ميت وإنهم ميتون، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} (الزمر: 30-31). وأكد عبده أن هناك 1409 آية بالقرآن تثبت عدم وجود عذاب القبر، محذراً من أن الفقهاء يتبعون نظرية إقصاء الدليل حتي يظل فقههم هو الفقه السائد، "فالبعض جمع الملايين من كتب عذاب القبر وأهواله"، وما ذلك إلا لتأثرهم بروايات ظنية الثبوت ظنية الدلالة، ثم قاموا بلي معاني ثلاث أو أربع آيات قرآنية ليدللوا بها علي عذاب القبر الموهوم، مضيفاً: "أتحداهم في أمر آخر، وهو أن يوضحوا لنا الآيات التي تتحدث عن نعيم القبر، فلن يجدوا لأن هؤلاء فقهاء الغلظة". من جهته، طالب الدكتور سعد الدين هلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة "الأزهر"، الفريق المؤيد لعذاب القبر والفريق المنكر له، بالتركيز علي القضايا الحياتية والمعيشية التي تؤرق المواطن العادي كل يوم من أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، قائلاً ل"آخر ساعة": "القضية مثارة منذ القرن الأول للهجرة، ولم يتم حسمه لأن لا أدلة مادية تحسم النقاش لصالح أي طرف، فلم يذهب أحد إلي العالم الآخر وكشف عما يحدث داخل القبر وعاد ليخبرنا بتفاصيل ما رأي". وتابع هلالي: "أدلة كل فريق متكافئة وعندما تستمع لأي منهما تكاد تقتنع وتركن إلي حجته، لكن عندما تستمع لحجج الطرف الآخر يتبين أن عدم الاتفاق علي رأي واحد واضح رحمة بالمسلمين، والأزهر يدرس في كلياته الرأيين معاً دون اعتراض، فالأفضل صرف النظر عن تلك القضايا الفرعية، وعلي أساتذة العقيدة أن يتقدموا الصفوف ويشرحوا للناس الرأيين معاً ويتركوا لكل فرد مسلم عاقل أن يأخذ بأي من الرأيين". جدير بالذكر أن قضية عذاب القبر مثارة منذ القرون الإسلامية الأولي عندما كان عذاب القبر ضمن أفكار أخري كثيرة تناقش في المحافل العامة في تلك الأزمنة- محل بحث وجدل في تلك العصور الخالية في وقت كان اعتناق المذاهب الإسلامية كالانضمام إلي الأحزاب السياسية وعشق كرة القدم في يومنا هذا، لذلك تلقي "آخر ساعة" الضوء علي أفكار المذاهب الرئيسية في الإسلام ونظرتها لعذاب القبر بين مؤيد ومعارض. وكان لكل فرقة إسلامية موقفها الخاص من قضايا الإسلام المختلفة تكونت من خلال شيوخ الفرقة وأصبحت تلك الأفكار علماً علي كل فرقة إسلامية، وبالنسبة لقضية عذاب القبر فقد انقسمت فرق الإسلام بين مؤيد ومعارض كل يسرد أدلته وبراهينه التي تثبت موقفه ويفند أدلة الآخرين ويضعضع حججهم، فبينما أنكرت فرق المرجئة والمعتزلة وابن حزم الأندلسي أشهر فقهاء المذهب الظاهري عذاب القبر، نجد أن فرق السنة -بقيادة الأشعري والماتريدي- يقرون عذاب القبر.