لست في صف من يقفون ضد الراحلين من الذين تركوا أثرا مهما وشاركوا في صناعة الحاضر وأن يظلوا حاضرين كملهمين نستعين بكلامهم.. لكن الأمر يصبح أمرا مرضيا حين يصير الماضي مهيمنا علي كلامنا وناشطا فينا أكثر من الحاضر..ويصبح الموتي هم سلاحك الوحيد لمواجهة الحياة.. لذلك يثير الاستغراب هؤلاء الذين يظلون يعتدون بمقولات لسياسيين وأدباء وغيرهم ممن عاشوا في منتصف القرن الماضي ويرمونها في وجهك في كل نقاش كأنها عصا موسي التي ستلقف كل ما سواها.. لا أظن سوانا من المجتمعات لديه هوس الاستعانة بالموتي واستحضار مقولات غافية في متون التاريخ لتطبيقها علي الحاضر فتجد من يحاججك وأنت تناقش موضوعا معاصرا برأي لكاتب رحل قبل خمسين سنة.. ولا أعرف من أين أتاه الجزم واليقين بأن هذا الرجل لو عاش كان سيقول بهذا الرأي وسيظل مستخدما أدوات الحكم نفسها.. ثم إنك تحكم علي هذا الراحل مبهوراً بكلامه القديم بأنه لو عاش خمسين سنة أخري فلم يكن ليغير في آرائه و نحن هنا من دون أن ننتبه نضعه في خانة الذين لا يتعلمون ولا يقدمون شيئا جديدا.. والحديث هنا عن مواقع التواصل الاجتماعي حيث هي سوق خصبة للدلالات السياسية والاجتماعية ولقراءة راهن المجتمع ومن خلالها يمكنك أن تقرأ أنماط التفكير السائدة..فغالبا وعند كل حدث أيا كان حتي ولو مناسبة كروية تجد صور الراحلين من شخصيات مع مقولات قديمة لهم يجري توظيفها بشكل ارتجالي لدعم رأي جديد وحادثة جديدة.. وهذا بالطبع منشؤه ظاهرة »القياس» التي أغرمنا بها دائما لإراحة أنفسنا من عناء التفكير وإلقاء هذا العبء علي شخص ميت لا يستطيع الدفاع عن نفسه.. لست ضد تبجيل الراحلين والاعتداد بأفكارهم..لكني أحاول فهم لماذا لا نستفز الحاضر ليكون منتجا؟.. ولماذا يسكننا الحنين إلي الماضي دائما كمساحة آمنة لا تحتمل الالتباس؟.. في ظني أن الأمم التي تصنع الحضارة الآن ونحن نناقش أفكارا كهذه هي الأمم المسكونة بحنين وثاب إلي المستقبل ولا تظل تنظر خلفها بتثاؤب..