لم يكن الرئيس السيسي بحاجة لأن يعلن أنه مع الالتزام الدستوري الذي ينص علي ولاية رئيس الجمهورية لمدتين علي الأكثر، ولا لأن يؤكد أنه لا يرغب في تعديل فترة الرئاسة الواحدة لتزيد علي 4 سنوات. نحن نعرف موقفه دون أن يعلن. هو نفسه لم يكن يريد منصب الرئيس من الأصل، ولو لمدة واحدة. العبد لله كان من الشهود، والله خير الشاهدين. لم أسمع أحداً يطالب بزيادة ولاية رئيس الجمهورية عن مدتين. فقط سمعنا وطالعنا آراء ومطالبات تدعو إلي زيادة سنوات المدة الرئاسية إلي 5 أو 6 سنوات، بمنطق أن السنوات الأربعة ليست كافية لأي رئيس لإنجاز برنامجه، خاصة في ظل ظروف عصيبة تمر بها البلاد. أصحاب هذا الرأي، لهم مثلما للرئيس، حق التقدم بطلب لتعديل الدستور في هذه المادة وغيرها، بوصفهم أعضاء بمجلس النواب، ولا ينازعهم أحد هذا الحق أو يسلبه منهم، ولو كان الرئيس نفسه. حتي الآن.. لم يفصح الرئيس عن موقفه من الترشح لمدة رئاسة ثانية. هو يعتزم التقدم بكشف حساب خلال الشهر المقبل أو في مطلع شهر يناير إلي الشعب عما أنجزه في 4 سنوات مضت. وعلي ضوء رد فعل الجماهير، سيعلن موقفه. سبق وكتبت منذ ثلاثة أشهر، مطالباً الرئيس السيسي بالإعلان وقتها عن عزمه الترشح للرئاسة، لكنه أبلغني بموقفه من أن الأوان لم يحن بعد، وأنه يفضل انتظار تقديم كشف الحساب أولاً للشعب واستشفاف موقف الجماهير. وكعادتي - عدت وألححت عليه برأيي خلال لقائه بممثلي الإعلام الأجنبي والعربي والمصري يوم الأربعاء الماضي في شرم الشيخ ولكنه رد قائلاً: مازلت عند موقفي ورأيي. أي أن السيسي لا يترك فقط للشعب القرار في انتخابه أو اختيار غيره، بل يوكل إليه أيضا القرار في مسألة ترشحه. إذا كان قرار ترشح السيسي بيد الجماهير، فسوف يترشح إذن، مثلما استجاب منذ 4 سنوات لندائها الهادر، وقرر الترشح للرئاسة، بعدما كان يفضل البقاء في منصبه - وهو منتهي طموحه - كقائد عام للجيش المصري العظيم، والاحتفاظ بموقعه في سجلات التاريخ ووجدان الجماهير كبطل شعبي انحاز لإرادة بني وطنه. يقيني أنه لو جرت الأمور في أعنتها، ستسفر انتخابات الرئاسة في مطلع أبريل المقبل عن فوز السيسي بمدة ثانية، واعتقادي أن فوزه سيكون من الجولة الأولي مهما كان عدد المرشحين المنافسين، وليتهم يتعددون. ثمة من يشعر بالقلق ازاء أجواء حملات الانتخابات الرئاسية المقبلة، ويخشي من أن يتخذها الإخوان وحلفاؤهم تكئة للإساءة بالباطل إلي الرئيس السيسي، وستاراً لإهالة الأتربة علي منجزات الشعب في 4 سنوات، بغية نشر الاحباط وتيئيس الجماهير، لتعزف عن النزول إلي لجان الانتخاب، وهذا هو المراد! غير أني لا أشارك هؤلاء ذلك القلق، لأني أدرك أن وعي الجماهير المصرية، أقوي من كل أشكال الدعاية السوداء والحرب النفسية. لا أدعي بعد النظر، لكني أحسب الذين يتوهمون بإمكانهم إعادة أوراق النتيجة إلي ما قبل يوم 30 يونيو، لا تعنيهم انتخابات الرئاسة المقبلة في 2018، فلم تبحر بهم أوهامهم بعيداً إلي حد تصور أن السيسي، مهما دبروا من مكائد وبثوا من أكاذيب، قد يخسر الانتخابات، علي العكس هم يرونها محسومة ووطنوا أنفسهم علي ذلك. لكني أكاد أراهم، يتطلعون من الآن لعام 2022 وما بعده، يعيدون لملمة ما تبقي لهم من أوراق، وتنظيم أشلاء صفوفهم، والدفع بشخصيات غير محروقة شعبياً كواجهة لهم، ونسج تحالفات جديدة مع الذين لا يجدون غضاضة في التحالف مع الشيطان. أقول بصراحة إن إعلان الرئيس السيسي بأنه لا يرغب في تعديل الدستور، لزيادة سنوات مدة الرئاسة، أطلق بصيص أمل في صدورهم بأن ما يسعون وراءه منذ أكثر من 4 سنوات مضت، قد لا يكون سراباً في صحراء الأوهام. فإذا كان السيسي سيترك منصبه بعد 4 سنوات لا غير، فإن أي مرشح لخلافته لن يكون قطعاً علي قدر صلابته وعزمه وبصيرته ورؤيته، ولن يتمتع حتماً بنصيب قريب من شعبيته، ولن يحظي بهذا الحجم من الاحتشاد الجماهيري خلف قيادته. من ثم فإما يسهل عليهم تقليم أظفاره، ليلجأ إلي التصالح معهم، وعفا الله عما سلف، وإما يسهل لهم قطع الطريق عليه وتلغيم دروبه، للانقضاض علي ثورة 30 يونيو، أو علي الأقل منجزاتها ومكتسباتها، وأهمها الدولة المدنية. أكاد أراهم، يعدون خطط التسلل إلي الحياة السياسية، عبر الانتخابات العمالية القادمة، ومن بعدها انتخابات المحليات، فمراكز الشباب، والنقابات، واتحادات الجامعات، وربما بعد ذلك انتخابات مجلس النواب. نفس أسلوبهم العتيق في السيطرة علي مفاصل المؤسسات الجماهيرية. ربما أوصف بالمغالاة أو علي الأقل التشاؤم، لكن درس الحياة يقول إن السيناريو المستبعد غالباً ما يتحول إلي بديل محتمل، إذا أنت نقلته لخانة المستحيل من السيناريوهات. بل لعلي أقول إن هناك في الخارج، من يرتب لمصر 2022 وما بعدها، ليعيد الكرة، عساه يحيل السراب إلي واقع قريب من التحقق. لست أقلل من شأن شعبنا العظيم القادر علي الدفاع عن ثورة 30 يونيو، التي فجرها وقادها وأنقذ بها بلاده من مصير مظلم، لكني لا أستطيع نكران تأثير قطرات الماء المتساقطة علي صلابة أقسي الحجارة. المناعة هي ما نبتغيها لصلابة الجبهة الوطنية، ومن ثم لابد أن نسد الثغرات أمام محاولات التسلل، والثقوب أمام تسرب قطرات المياه. الوعي بالمخاطر المحتملة، هو أنجح طرق الوقاية، وهذا دور الإعلام الوطني، الذي نريده رشيداً واعياً، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. وسد الثغرات والمنافذ، هو دور الأحزاب. لكن أين هي الأحزاب؟! أكاد أقسم أننا لو نظمنا مسابقة لحصر أسماء الأحزاب القائمة، ما فاز بها أحد، حتي من بين رؤساء الأحزاب. لدينا في مصر نحو 140 حزباً أحوالها معروفة، وليس من المصلحة الطعن فيها. هي في مجملها تنتمي إلي 4 أو 5 تيارات فكرية وسياسية، ولا تختلف في برامجها عن بقيتها. إذن أليس من المصلحة الوطنية، ومن صالح التعددية الحقيقية، أن تندمج الأحزاب المتماثلة في الفكر والتوجه والبرامج معاً في حزب كبير مؤثر في الشارع وفي القواعد الجماهيرية، وفي الحياة السياسية، وفي البرلمان، وفي انتخابات الرئاسة؟! لست أجنح فأطالب بإدماج معظم الأحزاب في حزبين كبيرين يتداولان السلطة، علي نسق بريطانيا أو الولاياتالمتحدة، إنما علي الأقل أدعو إلي دمجها في 4 أو 5 أحزاب كبري قوية تبث الحيوية في الشارع السياسي، وتباشر دورها في بناء الكوادر، وتأهيل القيادات السياسية والشعبية والتنفيذية، وتقديم وجوه وشخصيات مؤهلة لتحمل مسئولية رئاسة الوزراء بل رئاسة الجمهورية، بدلاً من حالة الجدب التي نحياها في البحث عن مرشحين لاحقين لخوض انتخابات الرئاسة، حفاظاً علي التعددية. وإنني علي يقين من أنه لو كانت لدينا أحزاب قوية بعد ثورة 25 يناير، ما استطاع الإخوان تأميم البرلمان والرئاسة، ووضع الحياة السياسية بمصر في أسر الجماعة ومرشدها. لذا فإنني أنادي رؤساء الأحزاب المصرية بتغليب المصلحة الوطنية علي المصالح الذاتية الضيقة والمناصب التي لا تعلي من شأن أصحابها، وأسمح لنفسي أن أدعوهم إلي جلسات حوار تحتضنها مؤسسة »أخبار اليوم» المملوكة للشعب، في إطار دورها الوطني، دون تدخل، ودون شروط، إلا الحرص علي المصلحة العامة قبيل موجات الانتخابات المقبلة. وربما يكون حوار الأحزاب، واندماجها، خطوة نحو تأهيل كوادر وفرز شخصيات مؤهلة تتمتع بالكفاءة والقدرة علي كسب احترام مؤسسات الدولة الصلبة، ليكون بينها من يستطيع قيادة البلاد في المستقبل القريب. لست أقول إن مصر عقيمة عن إنجاب من هو مؤهل لقيادتها في عام 2022، لكني بكل صراحة أكاد أجزم بأن الوقت قصير للغاية للفرز من خلال القوي السياسية، فليس من المعقول أن تكون أولي مسئوليات حاكم البلد، هي تولي مقاليد الحكم، دون سيرة إنجاز، أو مسيرة عمل وطني. هذا هو المأزق الذي نجد فيه أنفسنا بإعلان الرئيس السيسي عن موقفه المعارض لاقتراح بعض نواب الشعب زيادة سنوات مدة الرئاسة، مثلما كدنا نقع في مأزق حينما أوشك منذ 52 شهراً علي إذاعة بيان كتبه بخط يده، يعلن فيه أنه لا يريد الحكم ولن يترشح لانتخابات الرئاسة. ويقيني دون ادعاء موضوعية عمياء ولا حياد زائف أن السيسي سيكون الرئيس المقبل، ولعله لابد أن يفكر مع نهاية ولايته الثانية - متعه الله بالصحة والعافية - في إنشاء حزب سياسي، لأنه حين يترك السلطة بحكم الدستور، سيظل القبلة السياسية لجماهير الشعب التي وجدت فيه البطل قبل الرئيس، وتجد فيه الزعيم بعد الرئيس. في كل الأحوال.. الشعب هو صاحب القرار الذي لابد من أن ينصاع له أي أحد وتبقي الجماهير هي المدافع الأول عن ثورتها. ويظل الجيش هو الحامي لإرادة الشعب. ليس في حديثي هذا، قفز علي حاضر، ولا استباق لمستقبل، فمن حسن التدبير وأنت تمضي في مسيرة عابرة للفصول، أن تحمل رداءً ثقيلاً تتدثر به أو مظلة تحتمي بها، حين يحل الشتاء.