في الحادي والعشرين من أغسطس عام 1941 رحل طلعت حرب عن دنيانا. وفي الحادي والعشرين من أغسطس الماضي حلت الذكري الخامسة والسبعون لوفاته. حلت الذكري دون أن يتذكره أحد ؛ فهل رأي أحد أمة تتنكر لعظمائها مثلما نفعل في هذه الأيام ؟ طلعت حرب ليس مجرد رجل أسس بنكاً، طلعت حرب هو الرجل الموازي لسعد زغلول في مجال الاقتصاد، فإذا كان سعد سعي لتحرير مصر سياسياً فطلعت هو الذي سعي لتحرير مصر اقتصادياً. طلعت حرب هو الذي أقام منظومة صناعة القطن المصري في مصر لأول مرة، فأنشأ المحالج لحلجه، وأنشأ شركة مصر للغزل والنسج بالمحلة لتصنيعه، وأنشأ شركة صباغي البيضا لصباغته، وصار لدي مصر منتج قطني مصري بدلاً من الاستيراد من انجلترا. طلعت حرب هو الذي أنشأ مدينة صناعية تنافس مانشستر، أطلقوا عليها مانشستر مصر. طلعت حرب هو مؤسس مصر للطيران، ومصر للسياحة، ومصر للتأمين، ومصر للملاحة، وهي كلها شركات نفخر بها حتي الآن. طلعت حرب هو الرجل الذي جمع بين الخبرة الاقتصادية والإيمان بالفن، فبني مسرح الأزبكية (المسرح القومي الآن ) وأنفق عليه من حر ماله. وأنشأ فرقة ترقية التمثيل، وشركة مصر للتمثيل والسينما، التي كانت وقتئذ تمثل البنية الأساسية لصناعة السينما، ثم أنشأ مدينة للسينما أسماها ستوديو مصر. وهو أيضاً منشئ مطبعة مصر. وهو الذي أقام مسابقة لتأليف وتلحين أول نشيد وطني لمصر، بعد أن كنا نعزف نشيد المارسلييز الفرنسي في المناسبات الوطنية. ويومها فاز في مجال التأليف أمير الشعراء أحمد شوقي، وفاز في التلحين الموسيقار سيد درويش. طلعت حرب أيضاً هو الذي ضمن مؤسسي النادي الأهلي لدي البنك الأهلي عند إنشائه، وكان من أوائل المساهمين فيه. أي أنه اهتم ببناء الإنسان وجدانياً وبدنياً بنفس درجة اهتمامه ببناء مصر الاقتصادي ؛ فهل يمكن أن تنسي مصر رجلاً بهذه الأهمية؟ لكن يبدو أن طلعت حرب رجل سيئ الحظ حياً وميتاً، فالمعروف أنه بعد أن أسس البنك، وأنشأ عشرات الشركات قالوا له : إما أنت أو البنك. ويومها قال : فليذهب طلعت حرب وليبق بنك مصر. ووقف علي باب البنك عند خروجه ليقول بمرارة » لقد مت ولم أدفن »، وهانحن نكمل منظومة انعدام الوفاء في حق الرجل بعد وفاته. كنت أظن أن وزارة الثقافة ستتحرك بهذه المناسبة لتقدم القدوة للأجيال الجديدة، انتظرت أن تقوم هيئة الكتاب بطباعة كتب طلعت حرب، مع دراسات وافية عن ظروف إنتاجها، وقيمتها، وأن يقوم المركز القومي للسينما بإنتاج فيلم تسجيلي عن الرجل وإنجازاته، أن يقوم البيت الفني للمسرح بإعادة إنتاح مسرحية محسن مصيلحي عن طلعت حرب، وأن تقوم الثقافة الجماهيرية بدلاً من الغرق في الصراعات بالاحتفال بطلعت حرب في محلة ابو علي، وفي المحلة الكبري، وفي كل مكان أقام به صروحه الصناعية. انتظرت أن يحتفي الإعلام المصري الحكومي والخاص بذكري الرجل، لكنهم جميعاً لم ينتبهوا. ومرت الذكري مرور الكرام. لاأريد البكاء علي اللبن المسكوب، لكني أقول لبنك مصر وللإعلام المصري، ولوزارة الثقافة، وخصوصاً هيئة قصور الثقافة : ياسادة.. إذا كانت ذكري الوفاة قد فاتتكم فإن ذكري الميلاد قادمة، ففي العام القادم تحل ذكري مولده المائة والخمسون، إذ إن بطلنا من مواليد 25 نوفمبر 1867، فهل نبدأ من الآن في الاستعداد لإحيائها ؟ هل أطمع في تكوين لجنة لتنظيم الاحتفال تضم ممثلين لبنك مصر، ووزارات الثقافة، والإعلام، والشباب، واتحاد المستثمرين ؟ إن مشكلة مصر الكبري الآن هي المشكلة الاقتصادية، لذلك فنحن أحوج مانكون لاسترجاع سيرة رجل أعمال عظيم، لم يفكر بطريقة اخطف واجري، بل عمل بمنتهي الجدية والإخلاص لبناء مصر. فهل يسمعني أحد ؟