إذن، فيلم «عثمان الجبار» لم يتوقف عرضه بعد الثورة، وإنما استمر يهاجم جمهور النظارة بقسوة وغشم وبكثافة، ربما أكبر مما كان يحدث أيام المخلوع، كل ما فى الأمر أن «الجبار» أدخل تعديلا طفيفًا على السيناريو العبيط نفسه بمقتضاه استبدل أسماء زبائن العصر الجديد بأسماء أبطال عصر المخلوع وولده.. ثم كان الله تعالى بالسر عليما. قلت بالأمس إن «عثمان» خرج من الوزارة التى رُقِّى إليها مكافأة لجنابه على فبركة وطبخ استطلاعات واستقصاءات مضروبة، لكنها رسمية وممهورة بختم النسر، كشفت كلها كيف أن الأغلبية الساحقة من الشعب المصرى (89 فى المئة) كانت خلاص، على وشك الموت من السعادة والهناء تحت حكم مبارك وابنه ونظيف وخلافه، لولا أن هذه الأغلبية لحقت نفسها فى آخر لحظة وقامت بثورة عارمة نجحت فى خلع وبهدلة كل هؤلاء الذين كانوا سبب سعادة وهناء هذا الشعب العجيب المصاب بداء حب التعاسة وتعذيب الذات. غير أن «عثمان» هذا جبار جدا ولا ينال أو يؤثر فى جبروته العلمى وافتراه المنهجى أن يبقى أو يخرج من المناصب الرسمية، فقد قلت أمس إن الرجل أسس بسرعة بعد مغادرته أقبية الحكومة المظلمة مركزًا (أو بالأحرى مطبخًا) خصوصيا للطبيخ العلمى الاستقصائى سماه «بصيرة» عملا بقاعدة «الحرب خدعة» ونزل به فورًا إلى سوق عطشى لبضاعة اللغوصة والتفعيص فى أحشاء الرأى العام واستخراج نتائج وأرقام ما أنزل الله بها من سلطان لكنها تلبى احتياجات وتناسب مقاسات الزبائن الجدد. أما باكورة الإنتاج المعلن للأخ «بصيرة» فقد بدا كصاحبه الأخ «عثمان»، جبارا ومفتريًّا وشديد البأس جدا على الحقيقة وعلى العلم معا، فعبر سلسلة من الاستطلاعات العبيطة المطبوخة على عجل بمناسبة الانتخابات الرئاسية أتحفنا مركز السيد عثمان بنسب وأرقام تلامس حدود الخرافة، تصب كلها فى اتجاه محاولة تخليق أوهام وانطباعات زائفة لدى الجمهور بأن القوة والنفوذ الانتخابيين يحتكرهما اثنان فقط من المرشحين (أضيف إليهما زبون ثالث فى آخر لحظة). الطريف أن المرشحين هذين اللذين ظلا يتبادلان الموقع الأول والثانى فى أرقام استطلاعات «بصيرة» عثمان ظهرا فى نتائج الانتخابات الفعلية، وقد خرجا تمامًا من حلبة المنافسة، إذ سقط الأول (فى نتائج آخر طبخة عثمانية) إلى المركز الرابع، بينما هبط الثانى إلى المركز الخامس!! طبعا، نحن نعرف أن الاستقصاءات والاستطلاعات العلمية لاتجاهات الرأى العام مسموح لها بنسبة خطأ لا تتجاوز 3 فى المئة صعودًا أو هبوطًا، وهى نسبة لا تسمح أبدا بأن تخلو مواقع الأول والثانى والثالث كذلك من زبائن «بصيرة».. هل لاحظت لفظة «زبائن» التى تكررت فى هذه السطور وتسأل عن سبب استخدامها؟ حسنا، سأرد على حضرتك السؤال بسؤال: هل سمعت حضرتك بمركز «علمى علمك» للبحث والاستقصاء يسرح أصحابه والمسؤولون عنه على بيوت ومكاتب المبحوث فيهم والمستقصى عنهم؟! أرجوك راجع ما كتبه الزميل والصديق العزيز الدكتور عمار على حسن فى صحيفة «الوطن» بتاريخ 30 سبتمبر الماضى، فقد سجل الرجل شهادة خطيرة حول واقعة مذهلة شاهدها بعينيه فى بيت أحدهم!! طيب، هل سمعتم عن بحث علمى استقصائى يتم على عينة مبحوثين يتصل بهم الباحثون العلميون قوى جدا خالص بالتليفونات بنوعيها (الأرضى والموبايل)؟! لقد اعترف بهذا معالى الدكتور عثمان الجبار علنا على شاشات التلفزة (فى حوار مع المذيعة اللامعة جيهان منصور بقناة «دريم الفضائية») ومن دون أن يهتز له رمش تعلل بأن الوقت لا يسعف سيادته باللقاء المباشر مع خلق الله المبحوثين!! وأخيرا، هل ارعوى «عثمان الجبار» وانزوى ب«بصيرته» العمياء عن عيون خلق الله بعد خيبة نتائج الانتخابات الرئاسية؟! أبدا، ظل ثابتا كالطود على قلوبنا وبقى حاضرًا فى حياتنا يطل علينا بين الفينة والأخرى بجبروته وقسوته وجرأته على كل ما للحقيقة والعلم بأى صلة، لكنه فقط استبدل الزبون «الرئاسى» الناجح بالزبائن الراسبين، وعلى «البترون» عينه وبالطريقة نفسها التى سبق وأقنعنا بها أن 89 فى المئة من المصريين يرفلون فى السعادة والعيشة الهنية بسبب سياسات المخلوع وحكومته، يحاول أن يقنعنا الآن بأن 79 فى المئة من هذا الشعب التعبان مبسوط قوى جدا خالص وراضى تماما عن أداء فضيلة الشيخ الرئيس الدكتور محمد مرسى.. ورغم ذلك والتزامًا بمقتضيات الأمانة العلمية (أو ربما دفعا للحسد) فإن معالى «عثمان الجبار» تواضع وقال فى نتائج أحدث استطلاعاته (التى يواظب الزملاء فى «المصرى اليوم» على الاحتفاء بها ونشرها بانتظام ممل) أن 58 فى المئة فقط من هذا الشعب الراضى المبسوط، مستعدون لإعادة انتخاب فضيلة الرئيس مرة تانية، إذا أجريت الانتخابات دلوقتى حالا...!!