اليهود الذين عاشوا فى مصر، فى الوجود على أرضها مجددًا، بعد أن غادروا أرضها بغير رجعة، بعد أن تم إجبارهم على التنازل عن الجنسية المصرية مقابل السماح لهم بالهجرة، ولكن لا يعنى ذلك من قريب أو بعيد أن الفيلم يتضمن دعوة إلى التطبيع مع إسرائيل. هل كانوا مصريين يهودًا أم يهودًا مصريين؟ من الذى يسبق الآخر، الهوية الدينية أم الوطنية؟ المخرج أمير رمسيس طرح فى فيلمه التسجيلى الطويل «عن اليهود فى مصر» جانبًا واحدًا فقط من الصورة، وهم اليهود الذين تمسكوا بمصريتهم. تاريخيًّا كانت مصر هى مرفأ الأمان لليهود، وبمراجعة الأسماء التى نجحت فى مصر على المستوى الثقافى والفنى فقط فى الزمن المعاصر تدرك أن مصر فتحت ذراعيها للجميع.. يعقوب صنوع فى الصحافة والمسرح، وتوجو مزراحى فى السينما، وعائلة مراد فى الموسيقى والغناء، الأب زكى وابنيه ليلى ومنير، وقبلهم الموسيقار داوود حسنى، ولدينا فى التمثيل راقية إبراهيم ونجوى سالم وسامية رشدى ونجمة إبراهيم، وعرفت مصر وزراء يهودًا وتجارًا كبارًا، ولا تزال المحلات الكبرى تحمل أسماءهم «بنزايون» و«شيكوريل» و«صيدناوى» وغيرها. عدد اليهود فى مصر تجاوز قبل عام 48 رقم 900 ألف يهودى، ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا فى مجتمع متسامح.. ثُلث هذا العدد عاش فى مدينة الإسكندرية التى كانت واحدة من أشهر مدن «الكوزموبوليتان» فى العالم، حيث تتعدد فيها الأعراق والأجناس والأديان. توترت العلاقة مع بداية الأطماع الإسرائيلية فى فلسطين، وبدأنا نحصى عدد اليهود ونفتش عن ولائهم.. يوسف درويش وهارون شحاتة وهنرى كورنيل، وغيرها أسماء ترددت كثيرًا فى فيلم أمير رمسيس، كان ولاؤهم المصرى ليس محل شك. ولكن لا أدرى لماذا تم برمجة عرض الفيلم ثلاث مرات يوم 6 أكتوبر، ولا أعتبرها مقصودة من بانوراما السينما الأوروبية فى دورتها الخامسة، حيث انتقت المخرجة ماريان خورى المسؤولة عن البانوراما كل هذه الأفلام التى تشع إبداعًَا وألقًا، والتى تستحق أن نمنحها مساحة قادمة، ولكن اختيار هذا التوقيت يظل خطأ مجانيًّا، بقدر ما أوقن أنه عشوائى. العلاقة بين ثورة يوليو واليهود حملت قدرًا من التوجس.. من الواضح أن اللواء محمد نجيب كانت لديه نظرة سياسية ثاقبة، وذكر الفيلم أنه عندما احترق الدقيق الذى يستخدم فى المعابد اليهودية لصناعة الخبز كطقس دينى كان حريصًا كأول رئيس لمصر على الحفاظ على هذه الشعيرة اليهودية، باعتبارهم جزءًا من نسيج الوطن، بل إنه طبقًا لما ذكره الفيلم طلب من الشيخ الباقورى أن يتراجع عن تصريح له يحمل شيئا من البغضاء لليهودية كديانة. عبد الناصر أيضًا كان منحازًا إلى مبدأ المواطنة، رغم أنه فى حرب 56 انقسم اليهود فى مصر حول طبيعة الولاء.. لمصر أم لإسرائيل. لم يتعرض الفيلم إلى أرقام تؤكد أسباب الهجرة، هل كانت بسبب الخوف من الاضطهاد أم أن اليهود فضّلوا، ومع سبق الإصرار، الهجرة إلى إسرائيل.. هناك مجموعة من اليهود ارتبطوا بالمنظمات الشيوعية واليسارية فى مصر، ولاؤهم المصرى واضح، ولكن هؤلاء شريحة ضئيلة لا تعبر عن كل اليهود، إلا أن السؤال عن موقف اليهودى الذى يعيش على أرض مصر وليس منخرطًا أو مغموسًا فى السياسة، ما مشاعرهم الحقيقية تجاه مصر؟! المعروف أن هناك أيادى إسرائيلية أشارت إليها الأجهزة المصرية تدين عددًا من الشخصيات كانت تريد الخراب لمصر، وألمح الفيلم إلى أن الجيش عادة كان لا يرحب بتجنيد اليهود داخل القوات المسلحة، وهو ما يعنى الشك فى الولاء للوطن. عدد من اليهود أشهروا إسلامهم، ومن الواضح أن الأمر هنا متعلق بالخوف أكثر مما هو قناعة بالدين، كما أن جزءًا ممن أسلموا لم يكن الدين بالنسبة إليهم يشكل قيمًا روحية.. ولكن اليسارى الشهير شحاتة هارون مثلا من الواضح أن موقفه ثابت، فهو ظل على يهوديته ورفض أن يقرأ الطقوس على جثمانه قبل دفنه حاخام من إسرائيل، لأنه ضد هذا الكيان الاستيطانى حيًّا وميتًا، وطلب فى وصيته استقدام حاخام غير إسرائيلى. «لا نعادى اليهودية كديانة».. رسالة مهم أن تصل إلى العالم، ولكن ليس كل يهودى عاش على أرض مصر أحب مصر، ومن أحبها هل توقن أن أبناءه وأحفاده أيضًا أحبوها؟!