وضع النبى أمته على «العتبة» بين الأمية وبين الكتابية، بين البداوة وبين الاستقرار، بين القبائلية وبين الحضرية، وأيضا بين التشرذم وبين الدولة. على العتبة. لذلك، بمجرد أن توفى فى العام 11 من الهجرة، خُلِقَت «نطفة» الخلاف حول السلطة وطريقة اختيار الزعيم. ثم «مضغة» الخلاف حول دفع الزكاة. ثم «عَلَقة» الخلاف بين عثمان وعلى. ثم وُلِد جنينُ السلطة المشوه، إذ قتل الخليفة عثمان بن عفان وانقسم الصراع على السلطة إلى الأمويين من ناحية، وبنى هاشم من ناحية، وطلحة والزبير وعائشة من ناحية، والخوارج من ناحية. إن كان هؤلاء جميعا، وهم حديثو عهد بالنبوة، اختلفوا حول شكل السلطة وتداولها فى الإسلام. فمن يتفق عليها إذن؟! أى من تلك هى دولة الإسلام؟! هل هى دولة المنتصر؟! دولة الاستيلاء؟! هذا عرف قبلى، لا يصلح لحياتنا الحديثة، بل لم يكن يصلح للحياة فى وقتهم هم. لكنهم كانوا أميى المعارف -وإن قرؤوا وكتبوا- وكانت معرفتهم فى الدنيا قليلة. فأحبوا أن يديروا شأن الحكم بتأويل النص الدينى. وفشلوا فشلا ذريعا. وكل من يفعل ذلك يفشل فشلا ذريعا. كما يفشل المهندس إن حاول بناء عمارة بالنظر فى القرآن والسنة. العبقرى عمر بن الخطاب فهم أن الانتقال إلى الحضر ستكون له ضريبته، فمنع الصحابة الكبار من الانتقال إلى البلدان المفتوحة. رغم أن هذا ليس موجودا فى الدين. هذا تصرف دنيوى بحت. أراد به منع «الصدمة الحضارية». لكن «ابن العز» عثمان بن عفان أبطل هذا. فهو نفسه معتاد من تجارته على الرحلات إلى بلاد الحضر، فحسب أن الانتقال سيكون سهلا. لكنه إذ فعل ذلك دفع ثمن الصدمة الحضارية غاليا. لقد نظر من شرفة منزله يوما فوجد نفسه مغضوبا عليه من المهاجرين ومن الماكثين. من النازحين ومن الوافدين. ممن أُفقروا فحمَّلوه المسؤولية، وممن أُغنوا فطالبوا بنصيب فى السلطة. كان يمكن للأمة وقتها أن تستوعب الصدمة، وأن تعود إلى رشدها، وأن تفصل بين الدين والدولة، بين ما لقيصر وما لله. لكنها لم تفعل. لأنها كانت محدودة المعارف. لأنها ظنت أن معارف الأميين التى تملكها، الحكمة المتوارثة، والنص الدينى المؤول، قادرة على سياسة الدنيا. تخيلى، نفس الخطأ الذى -بعد 14 قرنا من الزمان، 1400 سنة- لا يزال الأميون الجدد يريدون أن يقودونا إليه، بنفس الحجج، بنفس المنطق، كأنها مباراة ممتدة لم تنته بعد. والمتفرجون فيها لا يزالون يهللون لرجل يمدح الصحابة لدى ساسة الشيعة. والطرف الآخر لا يزال يبنى تحالفاته، لا على قيم إنسانية، بل على قيم دينية. فلا يهمه أن يقمع نظام أقرب إليه عقائديا شعبه لمجرد أن الشعب سنى، وهو شيعى. ولو لم نقف أمام خلط الدين بالسياسة، سيأتى شخص بعد ألف سنة أخرى، ويصرخ نفس هذا الصريخ الذى أصرخه. بينما سيظل الأميون متجددين. لأن السلطة تحتاج إليهم. لقد ظل «اغتيال عثمان» ماثلا أمام أعين الحكام. وبدلا من استخدامه عظة تعلمهم إشراك الأمة فى الحكم، استخدموه أمثولة يبررون بها القمع الذى لا نزال نعيشه حتى يومنا. قمعوها عسكريا؟ نعم، لكنه ليس موضوعنا. فالأهم من القمع العسكرى، أنهم قمعوها فكريا. فالإنسان المفكر إنسان متسائل، متحرٍّ، باحث، قلق. والناس إن تعلموا الأبجدية قرؤوا، وإن قرؤوا عرفوا، وإن عرفوا قارنوا، وإن قارنوا قبلوا ورفضوا، وفضلوا واختاروا. فلماذا هذا كله؟ لتبقيهم السلطة أميين، غارقين فى معارف الأميين، يحيون فى عالم يتخيلونه على طريقة الأميين.. ومن الذى يملك أن يقنع إنسانة بأن ترضى بهذا؟! من؟! طبعا، شخص له قداسة مكتسبة من الدين. يروج خرافات باسم الدين. ويشغل الناس فى تفاهات باسم الدين. ويقمع المعارضة باسم الدين. ولك الحق فى أن لا تصدقينى. اذهبى وابحثى، واقرئى التاريخ بنفسك. لا تقرئى «تاريخ المناقب». فما هذا إلا تطبيلا تاريخيا قام به رؤساء «الصحف القومية» القدماء. باسم الدين كُبِّلت عقول الأمة. ورأت السلطة أن ذلك حسن. وسنرى نحن ذلك -غدًا.