إذا أردت أن ترسم خريطةً توضيحيةً لأولويات الدولة المصرية، فما عليك سوى أن تتأمَّل تحركات الرئيس عبد الفتاح السيسى، خلال الأيام القليلة الماضية؛ لترسم مُثلثًا متساوى الأضلاع، أوّلها بناء قدرة شاملة للدولة تُؤمِّن وتحمى مصالحها، وتحفظ هيبتها فى إقليمٍ لا يأمن فيه الضعفاءُ على غدِهم، وقد تجسَّد ذلك التحرُّك فى تشريف الرئيس لتفتيش الحرب بالفرقة السادسة بالجيش الثانى الميدانى، والرسائل بالغة الأهمية التى تضمَّنتها كلمته فى تلك المناسبة التى تزامنت مع احتفالات مصر بالذكرى 51 لانتصارات حرب أكتوبر المجيدة، التى كانت نموذجًا لقدرة الدولة المصرية على مجابهة تحدياتها. وثانى تلك الأضلاع الرئيسية، جسَّدته الزيارة قصيرة المدة، عظيمة القِيمة والأثر لدولة إريتريا، والقمة المصرية الإريترية الصومالية، التى جمعت زعماء الدول الثلاث التى تربطها أواصر تاريخية ومصالح مُشتركة، وتجعل المرحلة الراهنة التى تتعاظم فيها مُهددات أمن البحر الأحمر من التنسيق المشترك أولويةً قصوى ليس فقط للقاهرة وأسمرة ومقديشيو، ولكن للإقليم كله. فيما يتجلَّى الضلع الثالث، من خلال افتتاح الرئيس السيسى لمحطة قطارات صعيد مصر فى منطقة بشتيل، وهى واحدة من آلاف المشروعات التى تتلألأ فى كل ربوع مصر لتحديث البنية التحتية، وتحسين حياة المصريين فى مختلف المرافق وعلى جميع المستويات، وهو نهجٌ تتمسَّك به الجمهورية الجديدة، رغم كل التحديات والضغوط الاقتصادية التى تفرضها أزمات إقليمية ودولية لا تهدأ ولا تترك لصانع القرار فرصةً لالتقاط الأنفاس. ■■■ ليس لدى الدولة المصرية رفاهية الوقت، حقيقة أكَّدها الرئيس السيسى حتى قبل أن يتولى المسئولية عام 2014، فهو لا ينظر بعين السياسى الذى يهمه كسب شعبية الشارع بأى ثمنٍ، لكنه يرى الواقع بعين زعيمٍ يقود مشروعًا وطنيًا لبناء قدرات الدولة الشاملة، ويُدرك أن معركته الحقيقية ليست فى الحاضر فقط، بل مع تراكمات الماضى وطموحات المستقبل أيضًا. معركة البناء التى يقودها الرئيس تعتمد ضمن أولوياتها على تعويض ما فاتنا فى سنوات الارتباك والاضطراب، وهو كثير وكبير، وترتَّبت عليه أوضاعٌ ضاغطة على الدولة المصرية؛ نتيجة ارتباك القرار وانكفاء الدولة لمعالجة أوجاعها الداخلية، فانهالت الضِّباع نهشًا فى الجسد المصرى، طامعة فى نيل ما عجزت عن الوصول إليه على مدى عقودٍ، كما أن تلك المعركة تضع عينًا على مستقبلٍ لا مكان فيه إلا لمن يمتلك أدوات العِلم والتكنولوجيا، وهو ما يتطلب تحركًا سريعًا لامتلاك تلك الأدوات، وتهيئة الإنسان المصرى لخوض منافسة مفتوحة الحدود ومُمتدة الآفاق. والحقيقة التى تُرسيها خِبرة العقد الماضى، أن الدولة المصرية باتت تمتلك قدرةً فائقةً، وفاعليةً حقيقيةً تُمكِّنها من التحرُّك على جبهاتٍ مُتوازيةٍ، فلا مجال ولا رفاهية للتركيز على ملفٍ دون آخر، ولا سبيل لتجاهل تحدياتٍ تأتى من اتجاهٍ؛ ليتسنَّى للدولة التركيز على اتجاهٍ آخر، فكل الجبهات مهمَّة، وكل التحديات لا تحتمل الانتظار، وما نعيشه اليوم وضعٌ غير مسبوقٍ فى تاريخنا الحديث والمعاصر على الأقل، إن لم يكن فى تاريخنا كله، فالتهديدات والتحديات تأتى من الاتجاهات الاستراتيجية الأربعة، ومن الداخل أيضًا، وصانع القرار لا يملك رفاهية التأجيل أو التحكُّم فى ترتيب الأولويات، فكل ما نُواجهه أولوية، وكل ما نُعانيه يتطلب تحركًا عاجلًا. القرار الاستراتيجى للدولة المصرية، خلال السنوات العشر الماضية، كان القتال المُتزامن على جميع الجبهات؛ فإصلاح الاقتصاد لن ينتظر الانتهاء من معركة القضاء على الإرهاب، والتنمية لن تحتمل تأجيلًا انتظارًا لحسم تحديات الطاقة، وإصلاح السياسة الداخلية لا يقل أهميةً عن ممارسة سياسة خارجية نشطة تُحافظ للدولة على مصالحها وتُعزِّز مكانتها على الساحتين الإقليمية والدولية، والمواطن المُتمسِّك بحقه فى عيش كريم وغدٍ أفضل لا يلقى بالًا لمدى ما تُقاسيه الدولة فى ظل توالى اشتعال الأزمات من حولنا، سواء فى المنطقة التى باتت أقرب إلى برميل بارود مُتفجّر، أو العالم الذى بات يُمسى ويُصبح على وقع الأزمات ودوّى الانفجارات. لذلك لا تكل الدولة أو تمل من التحرُّك على الجبهات المُتوازية، وتصر القيادة السياسية على ألا تستسلم للضغوط، بل تُحاول بكل ما أُوتيت من قدرةٍ وقوةٍ لخلق فرص من قلب التحديات، والبحث عن المِنح فى ركام المِحن، مُتمسكةً بعهدٍ قطعته على نفسها، وأوفت - ولا تزال تفى - بنصيبها من ذلك العهد، عندما قال الرئيس السيسى فى مستهل توليه للرئاسة: «لا أملك لكم سوى العمل، ولا أطلب منكم سوى العمل». ■■■ يستمر تحديث البلاد والعباد فى كل مكانٍ ومجالٍ، فى ظل واقعٍ بالغ الصعوبة والتعقيد، تفرضه طبيعة الإقليم المُضطرب الذى نحيا فيه، وتُفاقم من صعوباته ضغوط مرحلة تاريخية لنظام دولى مختل ومأزوم، وتُضاعف أعباءه مساعى إعادة تشكيل ذلك النظام الدولى، بكل ما تحمله من مخاوف الصدام والصراع، فخِبرة التاريخ تُشير بوضوح إلى أن إعادة بناء أى نظامٍ دولىٍّ جديد لا بد أن تُسبق بزلزالٍ استراتيجىٍّ يقوِّض أركان النظام القديم، ويُعيد ترتيب أوراق النظام الجديد، وغالبًا ما تأتى تلك الزلازل فى صورة أزمات اقتصادية طاحنة، أو حروبٍ عالميةٍ عاصفة، أو انهيارات لقوى دولية فاعلة. فى ظل كل تلك الأجواء المُلبدة بغيوم الواقعين الإقليمى والدولى، تتحرك الدولة المصرية برؤيةٍ وطنيةٍ واضحةٍ، منطلقةً من ثوابت راسخة؛ أهمها أن المصالح المصرية العليا هى البوصلة التى تقود جميع التحركات سياسيًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا، وأن القرار المصرى هو قرارٌ مُستقلٌ وشريف بلا «أجندات خفيَّة»، وهى مسألة ليست هيّنةً فى زمن الاستقطابات الحادة والأحلاف المُعلنة وغير المُعلنة، وفى ظل مُقايضات تعقدها قوى إقليمية عِدَّة فى الغرف المُغلقة، بينما تبيع وهمًا وشعارات زائفة ينساق وراءها مَن تستهويهم العنتريات، وتستثيرهم الكلمات الجوفاء! تتحرك مصر كقوة صنعت السلامٍ وتمسَّكت به، وتمتلك القدرة كذلك على حمايته ضد كل مَن يُحاول تقويضه. وقوة مصر ليست مُوجهةً ضد أحدٍ، وتحركها يستهدف فى المقام الأول حماية مصالح شعبها، ومن يتخوّف أو يتحسّس من تحركات مصر لتحقيق ذلك الهدف النبيل والمشروع، عليه أن يُراجع نفسه وأهدافه الحقيقية أولًا، وأن يتأمَّل جيدًا قول الشاعر ابن سهل الأندلسى: «كاد المُريبُ بأن يقول خُذونى».