span style="font-family:" Arial",sans-serif"وقف يتطلع مرات عديدة لصورته المنعكسة في مرآة علقت على باب شقته منذ ربع قرن، حين انتقل من قريته إليها ليمارس حياة المدنية من خلال مجتمع جل أفراده من القرى المتاخمة . span style="font-family:" Arial",sans-serif"هندم حلتة السوداء ورباط عنقة داكن الحمرة، مشط ما تبقى من شعره المتهالك المتناثرالشارد على جانبي رأسه الملتمع تحت أي ضوء، تأكد أن حذاءه براق وساعته تشير إلى الرابعة عصرا " تبقت ساعتان ويبدأ الحفل "، كست وجهه غيوم شجن حين حدثته نفسه بذلك، وضع هاتفه في جيب سترته الأيسر وحافظته في جيبه الخلفي "سأذهب على الأقدام، لن تمضى الساعة قبل أن أصل، فرصة لأجالس الأصدقاء قبل مراسم التكريم". span style="font-family:" Arial",sans-serif"تحركت قدماه بآلية وتؤدة تتناسبان ورحلة عقله إلى أربعين عاما مرت وهو منغمس في عمله لا يكاد يقبض على ساعة من نهار أو ليل يخلو فيها مع زوجته أو ولديه ( عمرو وهند ) . span style="font-family:" Arial",sans-serif"" اثنان وأربعون عاما وأنا أعمل معلما عقب حصولي على التوجيهية في مدرسة الشهيد (عمي) الابتدائية بقريتي " ثم ترقيتي لمعلم المرحلة العليا بعد عشر سنوات من حصولي على الشهادية الجامعية " . span style="font-family:" Arial",sans-serif"في طول المديرية وعرضها أنا أقدم المعلمين، كل المناصب رفضتها، أعشق رائحة الفصول والطبشور. span style="font-family:" Arial",sans-serif"تنتزعه من ذكرياته سيول التحيات التي يتلقاها ممن يمرون به، الجميع يعرفون الأستاذ عثمان إما معلما لهم في المدرسة أو الدرس أو لأبنائهم أو أبناء ذويهم. span style="font-family:" Arial",sans-serif"انتابه شرود حجب عنه أصوات الحياة الصاخبة لحظة أن أدرك أن اليوم هو آخر عهده بعمله . span style="font-family:" Arial",sans-serif"آلاف في كل المجالات نهلوا من فيض علمه، الزهو يملأ جنباته فتتسلل ابتسامة فخر تتفشى في وجهه span style="font-family:" Arial",sans-serif"(حاسب يابني الله يهديك) قالها منحيا ليلتقط ذلك الطفل الذي تشبث بساقه مستنجدا بدموع غمرت وجهه المترب فرسمت لوحة بؤس وقهر وبصوت يقطع نياط القلوب (أبويا هيموتني، حوشني عنه أبوس رجليك) وقبل أن يدرك ما يحدث دفعه شاب نحيف في نهاية عقده الرابع مجاهدا للإمساك بذلك الفرخ الذي التصق بقدمه لائذا بشرفه مستعصما بهيبته من ثورة أبيه الجامحة. span style="font-family:" Arial",sans-serif"ودون سابق إنذار سرى غضب عارم في صرخة هادرة انطلقت من حنجرة عثمان ممسكا بقضبة من حديد على يد ذلك الشاب ( ياحرامي يا ابن ..... ) والتفت ليواجه ذلك اللص الذي يحاول أن ينزع يده الممسكة بحافظة عثمان دون جدوى، وفجأة تراخت يد اللص وسكتت عن المقاومة لحظة أن التقت عيناهما فترك عثمان ينتزع حافظته من يده متمتما بالسباب والشتائم في حين جثا الرجل محتضنا صغيره في صورة أخرى لصدمة عارمة ودهشة رهيبة وآلاف التساؤلات تنطق بها عيون المشاهدين . span style="font-family:" Arial",sans-serif"جال ببصره في ردهة نادي المعلمين وكأنه يتعرف إلى المكان الذي سيقضي فيه الكثير من الساعات في أيامه المقبله . span style="font-family:" Arial",sans-serif"دلف لقاعة الاحتفال، كانت تمتلأ عن بكرة أبيها خاصة وأن صديقه وكيل الوزاة حرص على تكريمه بذاته فلم ينس أن رفض عثمان المنصب كان السبب الذي جعله يعتلي أكبر منصب تعليمي بالمديرية وبعيدا عن ذلك فإنه المعلم الذي حصد كل شهادات وأوسمة التقدير عرفانا لإخلاصه وتفانيه فضلا عن أقدميته التي لاينازعه فيها أحد . span style="font-family:" Arial",sans-serif"جلست زوجته وولداها في مقدمة الصفوف وكانوا أصروا على الخروج قبله لينظروا أمر الحفل ويراجعوا فقراته . span style="font-family:" Arial",sans-serif"سار الحفل كأروع ما يكون، وصاحب الحفل زائغ العينين شارد الفكر فلا تدري أبسسب ما حدث في الطريق أم من هول الإحالة للمعاش ؟ . span style="font-family:" Arial",sans-serif"جميع من ألقى كلمة أفاض وبسخاء في طرح التاريخ المكلل بتيجان الشرف والمجد والعلم حتى وصلوا لفقرة تقديم الهدايا التي اكتظت بها القائمة . span style="font-family:" Arial",sans-serif"القاعة تعج بمئات ومئات من الأصدقاء والزملاء والمسؤولين والطلاب وعثمان يتقدم لتسلم درع التكريم ووسام الشرف من وكيل الوزارة . span style="font-family:" Arial",sans-serif"اعتدل ليلقي كلماته التي تعثرت بغصص حادة وعبرات تغلبت على سياج التجلد الذي يمنع فرارها فقفزت لتغرق وجهه وتملأ التجاعيد وتسيل مع سيلها دموع الحاضرين فلم تعد تسمع إلا الأنين . span style="font-family:" Arial",sans-serif"فجأة تسمرت عيناه وكادتا تقفزان من محجريهما حين أبصرتا ذلك القادم نحوه بثبات مخترقا الجموع ومتوقفا أمامه بثبات يبتسم . span style="font-family:" Arial",sans-serif"التقط مكبر الصوت من يد عثمان ببساطة واستدار مواجها الجمهور الذي ينتحب لفراق معلمهم . span style="font-family:" Arial",sans-serif"( لا أحد منكم – غير واحد – يعرفني وصوب بصره نحو عمرو الذي يحملق فيه مشدوها ، وأما الأستاذ عثمان فقد تعرف مهنتي اليوم، وأتيته لأكمل التعارف . span style="font-family:" Arial",sans-serif"صمت هنيهة وأدار عينيه يرقب الذهول الذي ارتسم على كل الوجوه وعم صمت القبورعلى الجمع الذي كان منذ لحظات يضج بالتهليل والتصفيق والهتاف والأنين. span style="font-family:" Arial",sans-serif"ابتلع ريقه وعلى وجهه ابتسامة خلطت بين السخرية والقهر في مزيج عجيب ثم استطرد قائلا ( قطعا أخبركم أستاذنا عن اللص الذي حاول سرقته أثناء قدومه عليكم، ذلكم اللص هو أنا) span style="font-family:" Arial",sans-serif"ترك القاعة لحظات لتستوعب ما يقول ثم أردف ( لم يكن لي علم أن اليوم تكريم له .. ابتلع ريقه ثانية .. لكنني علمت من أفراد الأمن خارج النادي) span style="font-family:" Arial",sans-serif"وجه حديثه إلى عثمان ( أستاذ عثمان أقدم لك اسمي – مسعود جابر الدسوقي – ) مجلد من التساؤلات يطفح على وجهه span style="font-family:" Arial",sans-serif"( لا ترهق نفسك فلن تذكر اسمي، ابنك الدكتور عمرو يعرفني جيدا . span style="font-family:" Arial",sans-serif"قالها بمرارة تملأ حروف كلماته . span style="font-family:" Arial",sans-serif"( الدكتور عمرو) ياللسخرية span style="font-family:" Arial",sans-serif"عد معي يا أستاذي إلى أقل من ثلاثين عاما .. هل تذكر صديقك الذي شكا إليك أن – الكوتشينة الخاصة بالمعلمين سرقت من غرفة إقامتهم بالمدرسة ؟ – وهل تذكر ما فعلت ؟ رفعت راية الطوارئ وجمعت جنودك وجلت أرجاء الفصول تفتش عن ضالتك في أجساد الطلاب وأبعاضهم قبل حقائبهم ... امتعض وجهه ثم قال ... هل تذكر صراخ الفتيات حين كانت يداك تنقب في أبعاضهن ؟ ، هل تذكر كيف كنت موتورا تفتش عن ثأرك حتى عثرت على ضالتك في حقيبتي؟ . span style="font-family:" Arial",sans-serif"حملق في وجهه وقال لابد أنك تذكرت، ولكن دعنا نخبر السادة ما حدث بعد ذلك، جرجرتني من رأسي ومررتني على سبعة عشر فصلا ثم تسألني أمام تلاميذ كل فصل (انت إيه يا مسعود ؟ ) لأجيب على الفور ( أنا مسعود الحرامي ) ( وسرقت إيه يا مسعود ) ( سرقت الكوتشينة بتاعت المدرسين ) . span style="font-family:" Arial",sans-serif"التمعت عيناه واكتسى وجهه بزرقة عجيبة ( كنت أجيبك على الفور لأنني حين تلعثمت أمام أول الفصول لم يسلم موضع في جسدي من ركلة أو لطمة او ركزة أو صفعة أو بصقة، هل تذكر حين طلبت من كل تلميذ أن يبصق في وجهي ثم جمعت المدرسة في الفناء وخطبت خطبتك البتراء العصماء وأشدت برحمتك أنك لم تقطع يدي جزاء ما ارتكبته . span style="font-family:" Arial",sans-serif"( لست أذكر عدد العصي التي تكسرت على جسدي ولا أعلم أأكملت جلدك بعد إغمائي أم منعك الآخرون؟ ) span style="font-family:" Arial",sans-serif"وصدر قرار الرحمة بفصلي نهائيا من المدرسة . span style="font-family:" Arial",sans-serif"تلاحقت أنفاسه ورشح العرق من ياقة قميصه الأسود ورمق عثمان بنظرة حقد كأنه يربيه منذ تلك الحادثة ولم تهتز منه شعرة لحظة أن رأى عثمان يتهاوى على الكرسي يخفي وجهه بين كفيه . span style="font-family:" Arial",sans-serif"وتابع مسعود (لفظني أهلي، وأسلمت للطريق قدمي يقتات منهما الجلد واللحم وينحل العظم، حتى صرت ذلك اللص الذي قابلك اليوم، يقهقه ساخرا (ولم أستطع حتى أن اسرق منك اليوم شيئا) لا أعلم لماذا تملكتني رغبة في أن أتبعك، لكنني أحسست أن عذابات العمرالتي عانيتها لا تضاهي لحظة القهر حين رأيت عينيك اللتين تقع الصخور دونهما قسوة، كل ما أردته هو أن أبثك بعض المرارة التي صارت تشاطرني الفراش كل ليلة، حتى أمسيت لا شعور لي بوجع أو ألم أو معاناة وكنت أتساءل ( هل يؤلم البحر أن تلقي به أطنانا من الملح؟) span style="font-family:" Arial",sans-serif"هل تعلم يا معلم الأجيال بأنني لم أكن السارق لكنزكم؟ ثم صوب نظره نحو عمرو قائلا ببساطة ( لقد كان ولدك الطبيب) وكان صديقي المقرب ففديته بتضحية طفولية ساذجة . span style="font-family:" Arial",sans-serif"صرخ به عمرو (أما تستحي من شيخوخته؟ ستقضي عليه) span style="font-family:" Arial",sans-serif"(تبا لك وله، ما آراك إلا متنطعا تجاهد محاولا ستر خيبتك وطمس حقيقتك) ( نعم يا أستاذ عثمان إن ابنك هو السارق – إن كان يحق لنا أن نطلق لفظ السارق على طفل أخذ كوتشينة -...) قاطعه عمرو متوسلا ( كفى يا مسعود ، ستقضي عليه ، الرحمة !!!! ) span style="font-family:" Arial",sans-serif"حضور القاعة أموات يتنفسون وصوت مسعود يتردد ببرودة قاسية ( وهل تحق الرحمة لهذا العجوز الذي سيؤول إلى القبر عما قريب أم كانت واجبة لذلك الطفل الذي كان يتحسس دروب الحياة وينقش أماله على وجه القمر ؟ . ) span style="font-family:" Arial",sans-serif"وببساطة غادر القاعة كما أتى .