محمد سليم شوشة رواية بندارى» هى الرواية الأخيرة للروائى المصرى القدير كمال رحيم، وقد صدرت مطلع هذا العام عن دار العين بعد وفاته بعدة أشهر، وهى عمل أدبى ثرى دال على أسلوبه السردى المختلف، وتنتمى لمشروعه الأدبى الكبير فى السرد الروائى المصور للحياة الريفية فى مصر فى فترة الخمسينيات والستينيات، وهى الحقبة الدالة والانتقالية بين عهدين واضحين فى ملامحهما، بخلاف فترة التحول الاقتصادى والانفتاح الفكرى والاجتماعى والاقتصادى والسياسى التى كانت لاحقة بعد ذلك فى السبعينيات والثمانينيات أو تلك الحقبة الساداتية التى ركز عليها كتاب اليسار المصري. أما كمال رحيم فقد اتجه بشكل عفوى إلى الثلاث عقود المتمثلة فى الأربعينات والخمسينيات والستينيات، ينقلها فى الغالب من منظور طفل كان يقظا وذا وعى استثنائي، يبصر العالم بعينين بريئتين طامعتين فى الدهشة والمعرفة بدرجة أكبر من أى شيء آخر. ومع تركيز بدرجة أكبر على أحوال الريف المصرى المنسى نسبيا فى المشاريع الروائية المصرية التى سادت فى الفترات الماضية برغم أن كثيرا من الروائيين كانوا من أصول ريفية، بل يكون ذلك مؤشرا على تنكر كثير من هؤلاء من أنصاف المتعلمين لأصولهم الريفية حين استقرت بهم الحياة فى القاهرة وشغلوا بعض الوظائف المتوسطة. على النقيض من ذلك ما نجده مع كمال رحيم الذى كان لواء شرطة وحصل على الدكتوراة فى القانون وشغل مناصب مهمة، وظل مغروسا بوعيه فى الريف المصرى ينسج من رواياته ما يبدو أقرب لمتحف كبير يرمم فيه ملامح هذه الحياة الريفية بكل تفاصيلها الصغيرة، وسيدهشك حين يكشف لك جوانب غامضة وغريبة من الريف حتى لو كنت من أبنائه، وسيكشف لك عن أنماط من البشر تخص هذا العالم وحده، أنماط عجائبية برغم واقعيتها الشديدة وحقيقتها الكاملة، يكشف عن أنماط من البشر هم مزيج من الدهاء والفطرة والطيبة والسذاجة والمكر وقوة الرغبة فى الحياة، وتتراوح بين الطموح والكسل والغيرة والمنافسة والمعاندة وغيرها من السمات والصفات الإنسانية التى تجعل المتلقى يعاين نماذج بشرية تتسم بالحيوية والنبض الحياتى وفى غاية الدينامية. فى رواياته كلها تقريبا يترسخ هذا الخط ويتبلور نسق تلك الحياة الكاملة بكل أبعادها وتفاصيلها وحدودها وملامحها الجغرافية والبيئية والثقافية وظلال السياسة والاقتصاد والصراع من أجل التعليم والمال. فنجد هذا متحققا فى أيام لا تنسى، وحارة المليجي، وقهوة حبشي، ودكاكين تغلق أبوابها، وبنداري، وغيرها من الروايات الأخرى التى تمتزج فيها ملامح حيوات أخرى من المدينة أو الغربة خارج مصر فى أروبا مثلا بملامح الحياة الريفية. لكن الأهم فى تقديرنا أن تصويره للحياة الريفية كان مختلفا تماما عن السائد عن الريف، فلم يكن غارقا فى الأساطير والجن والعادات أو الطقوس الريفية، بل كان مركزا على واقعية هذه الحياة بتمثلاتها الإنسانية والحضارية وأبعادها البصرية والإدراكية عبر لغة ساخرة فكاهية تصل بالنموذج الإنسانى الذى يصوره لأن يكون نمطا عالميا فى تعقيده النفسى والأخلاقى والوجداني، فيصبح هذا النموذج الإنسانى الذى يصوره حالة مركبة ومعقدة إلى أقصى درجة، تتداخل فيه صفات متناقضة أحيانا، فيكون متراوحا بين الذكاء الفطرى الشديد والطموح والجموح والكبرياء، وبين حالات أخرى من الضعف والانهزام والانكسار أمام شدائد استثنائية تأتى من ناحية التحولات السياسية والاقتصادية أو من صراع البشر مع أنفسهم. يغوص عميقا فى أفكار الإنسان المصرى فى تلك الحقب التاريخية ليستكشف عقله ووجدانه وقيمه وأفكاره ويصور أحلامه وطموحه، متماوجا بين الفردى والجماعي، وراصدا طبقات من البشر تحولات بهم الحياة من الإهمال والنسيان واليتم والتهميش إلى الثراء والمكانة الاجتماعية. صور طبقات من الانتهازيين هى فى تقديرنا أكثر عمقا وأشد اتساعا من الطبقات الانتهازية التى صورها وجسدها كتاب اليسار فى كتاباتهم التى سادت فى الثمانينيات والتسعينيات قاصرين نظرهم على تحولات المدينة دون أن يدركوا أن هناك تحولا أكثر عمقا وأكثر اتساعا يتشكل فى القرى بامتداد مصر كلها. يمثل نموذج بندارى حالة إنسانية ثرية، شخصية روائية متفردة فى بنائها وتشكيلها النفسى بشكل خاص، وقدرة هذا النموذج على أن يكون رمزيا ودالا على طبقة كاملة من الصاعدين فى السلم الاجتماعى المصرى نتيجة تحولات الحياة وما هيمن عليها من تحرير للطاقات وانفلات من الإقطاع والطبقية التى كانت سائدة فى العصر الملكى والانفلات نحو تشكيل اجتماعى جديد عقب ثورة 23 يوليو، وتلك الحال المركبة والمعقدة من أوضاع اجتماعية وأخلاقية مزيج من العدالة واحترام قدرات الفرد وإمكاناته بوصفه مواطنا دون تمييز، وبين سياقات من الانتهازية والفساد والنهب للمال العام. شخصية بندارى الحارس/الخفير الذى يتحول هو نفسه إلى لص محترف يتسم بكل الذكاء فى سرقاته التى لا يشعر بها أحد ولا تقلل من مكانته أو تنتقص من أخلاقه وقيمته بين الناس فيعلو فى سلم الحياة الاجتماعية نتيجة سياقات جديدة وشعارات مغايرة من الحقبة الاشتراكية. يمثل بندارى شريحة ومؤشرا دالا على تحولات الحياة المصرية بكل أبعادها، تحولات هى بالأساس ما يتحرك فى الأعماق أو بعيدا عن السطح فى مجتمع المدينة، لتشكل هذه الرواية ما يقترب من دور الأشعة التشخيصية التى تكشف الأمراض وتصور أعضاء الإنسان المريض. وبالرغم من ذلك ربما يكون هذا الجانب على قدر أهميته ليس هو أهم ما فى خطاب هذه الرواية المكثفة، ليس منظورها الخاص على عالم الريف أو قدر عمقها وتكثيفها وقدرتها على أن تلتقط نموذجا معبرا ودالا إلى أقصى درجة. فالأكثر أهمية من كل هذا هو السمت الإنسانى شديد العمق فى تصوير عالم هذه الرواية ورسم ملامحه وتفاصيله، لنكون أمام عالم يتسم بالحيوية والعفوية والنبض وأمام حالة أقرب إلى المشهدية السينمائية المكتملة بكامل ما تملك السينما أحيانا من طاقات شعرية فى كل التفاصيل من صورة وصوت وحركة وتصوير للخلفية وتحول منها إلى المقدمة أو من اللوحة العامة إلى النموذج الفردى أو بؤرة التركيز التى تنشغل بها. فنجد أنفسنا أمام خلفية حياتية ثرية بالتفاصيل المهمة واللافتة، منها ما يتصل بعالم الريف وأطفاله وملابسهم وألوان هذه الحياة وإيقاعها وحركتها وحيواناتها وطيورها، مع تركيز كبير على الحمار الذى يمثل فى بعض الأحيان بطلا لهذه الحياة ونموذجا موازيا تماما للإنسان، فى تصوير طريف ورصد لافت ومغاير تماما، مما يؤكد حساسية خاصة لدى كمال رحيم فى تصوير عالم الريف ورصد تفاصيله، ليكون واحدا من أجمل من صوّر الحمار فى الرواية المصرية، هذا الحيوان المحورى بأبعاده الأسطورية والغرائبية وتفاصيله الظريفة وحضوره المميز والمركزى فى عالم الريف. وهذه مقدرة خاصة لا يملكها أى أحد من القدرة على النفاذ إلى المهمل أو المهمش أو غير المعتاد ليصنع منه نصا أدبيا فارقا. ومع هذا الحضور للحيوان فى تلك الرواية المختلفة يتشكل بعد آخر لا يقل فى أهميته وهو اللغة الساخرة الفكاهية. لنكون حالة متفردة من الإبداع السردى الذى يصل إلى حدود بعيدة من استثمار الطاقات الفكاهية لفن الرواية، والقدرة على الجمع بين الفكاهة والمأساة، وأن يكون وراء هذه السخرية قيم دلالية فى غاية الأهمية والعمق تقرأ الإنسان والحيوان وعناصر البيئة المختلفة، فى انزياح نسبى عن المركز الأوحد المتمثل فى الإنسان، ليكون هناك نوع من الانفتاح على عناصر الوجود وكائناته والأرواح الأخرى، وهو ما يمثل ملامح سرد ما بعد الحداثة بامتياز ولكن بعفوية ودون تعسف أو مبالغة أو تظاهر بالحداثة والاختلاف.