عكفت وزارة العمل في شهر أبريل من عام 1962 على إعداد مشروع قانون خاص ب«العمالة المنزلية» ومن فى حكمهم، بما يتوافق مع الدستور المصرى ومعايير العمل الدولية وحقوق الإنسان، بهدف تقديم الحماية والرعاية اللازمة لهذه الفئة وتقنين أوضاعها، وقبل نحو 62 عامًا نشرت «آخرساعة» تحقيقًا عن أن خدم البيوت كانوا يطالبون فى ذلك الوقت بتحديد ساعات العمل فى المنازل وينادون بضمانات وقوانين تنقذهم من قسوة بعض ربات البيوت.. وفى السطور التالية نعيد نشر ذلك التحقيق بتصرف محدود: لم توافق ربة بيت واحدة على تحديد ساعات العمل بالنسبة للخادمات، وأغلب ربات بيوتنا يعتمدن اعتمادًا كاملًا على الخدم، وأن نصف وقت الخادمة يضيع فى البيت على مجرد: «هاتى يا بنت كوباية ميه.. ودى يا بنت كوباية الميه». ◄ مأساة عزيزة من أجل «عزيزة» مطلوب وضع نهاية للحياة الضائعة التى تعيشها مع عشرات غيرها ممن يعملن فى خدمة المنازل. و«عزيزة» لا تطالب بأكثر من إصدار تشريع يحدد لها ساعات العمل، كما حدد هذه الساعات بالنسبة للعمال الصناعيين والزراعيين.. إنها تطالب بإيجاد ضمانات تحررها مع غيرها من قسوة بعض ربات البيوت.. ضمانات لا تقل قيمتها عن الضمانات التى حررنا فيها الفلاح والعامل الصناعى من الإقطاع. وعزيزة وجدت نفسها فجأة فى بيت تقول فيه لرب الأسرة وهى طفلة عمرها سبع سنوات: «يا سيدي»، وتقول لربة الأسرة: «يا ستي»، وهى لم تبتكر هذه الألقاب ولم تصنعها من خيال الطفولة الذى يسيطر على كل ذرة من كيانها الضئيل، لكنها توارثت هذه الألقاب بقانون.. قانون جلس فيه المشرعون من أصحاب العزب والإقطاعيات ليقولوا فى عام 1944 إن النساء والخدم لا يخضعون لقانون العمل الفردي، لأنهم ليسوا من العمال الصناعيين والتجاريين.. ولو عرف القانون فى هذه اللحظة ماذا سيحدث لعزيزة لأقنع نفسه فى هذه الفترة أنه قانون أعور.. ناقص.. فى إجازة مع الضمير والإنسانية. ◄ نهاية الأمل عزيزة روت ما حدث لها بعد أن وجدت نفسها لأول مرة فى بيت الخدمة.. قالت إن ربة البيت قالت لها بالحرف الواحد فى أول مقابلة: نظرًا لأنك يتيمة ومقطوعة من شجرة، فسأضع لك أجرك كل شهر فى دفتر التوفير، حتى إذا ما كبرت وأصبحت عروسة وجدت النقود التى تساعدك على شراء الجهاز. وسارت الأيام والسنين بعزيزة بطيئة.. لا أمل.. لا هدف.. لا حلم إلا هذه النقود التى سننقذها عندما يأتى لها العريس، ولكن أين العريس؟ إن عمرها أصبح 16 سنة، ومع ذلك لم يتقدّم لها أحد.. ولماذا يتقدم لها؟ إن ستها تقول لها دائمًا: يا قردة.. يا بجم.. يا شعنونة.. فهل هذه هى الصفقات التى ترضى العريس؟! قطعًا لا.. وفى النهاية وبعد أن فهمت من الخادمات اللاتى يعملن فى المنازل المجاورة لها، أنها وقعت ضحية وأن قصة التوفير مجرد قصة وهمية، ذهبت إلى ستها وقالت لها: أنا مش عاوزة عريس.. أنا عايزة فلوسى علشان اشترى بها مصوغات ذهبية.. وكانت المفاجأة عندما قالت لها ربة البيت: فلوسك.. فلوسك إيه يا حرامية؟.. مش كفاية إننا بنأكلك ونصرف عليكى.. وليت هذا هو كل ما حدث، فربة البيت لم تقتنع بالتهام مجهود تسع سنوات من عرق وجهد عزيزة فى خدمتها بل أمرتها بمغادرة المنزل فورًا نظرًا لوقاحتها. ◄ مع مقاول التخديم ووجدت عزيزة نفسها فى الطريق.. لا عائل.. ولا أسرة.. ولا مكان تستطيع أن تذهب إليه سوى مكتب التخديم.. وهناك جلست أمام مقاول وقح يطلب منها أن تدفع له مرتب أول شهر كثمن لإلحاقها بعمل فى منزل، ويطالبها كذلك ب10% من أجرها كل شهر، ويرغبها فى العمل فى بيوت العُزاب بحجة أنهم أحسن من ستات البيوت وفلوسهم كثيرة وعندهم رحمة وإنسانية وشفقة. وكانت هذه الكلمات لا تكاد تصل إلى أذنها، حتى تحرّك رأسها إلى أسفل دلالة على الموافقة، ولم تكن تحرك هذا الرأس على أساس فهم ومعرفة، فقد كانت تحركها بطريقة روتينية تدربت عليها بحكم المهنة، فقد تعودت على إطاعة كل الأوامر.. وأخذها صاحب مكتب التخديم إلى شقة فى الدقي، وكان أصحابها ثلاثة من الطلبة، استقبلوها استقبالًا لم تره فى حياتها. وفى أول ليلة اكتشفت سر هذا الاستقبال، اكتشفت أنها ستكون فريسة لذئاب لا ضمير عندهم، وهربت من الشقة وأكملت بقية ليلتها فى حجرة زوجة بواب العمارة.. وفى اليوم التالى عادت لمكتب التخديم ليقول لها صاحب المكتب، إنها عبيطة وخام و«مش وش نعمة»، ولم تنته القصة عند هذا الحد لأن عزيزة ما زالت زبونة تربطها علاقة حياة بمكتب التخديم، فعن طريق هذا المكتب استطاعت أن تلتحق حتى الآن بخدمة 20 منزلًا، تقول عنها: «كلها ألعن من بعض». ◄ اقرأ أيضًا | وزير العمل يترأس لجنة إعداد مشروع قانون العمالة المنزلية ◄ حمام بارد والمشكلة ليست مشكلة عزيزة وحدها، لكنها كذلك مشكلة «سعدية» الخادمة التى كانت تعمل فى بيت سيدة ثرية فى المحلة الكبرى واتهمتها هذه السيدة بأنها أكلت رطلين من السمن، وحلفت لها سعدية التى لم يتجاوز عمرها عشر سنوات بأنها لا تستطيع أن تأكل رطلًا أو حتى ربع رطل فكيف لها أن تأكل رطلين، ولم تصدقها السيدة وقررت أن تنتزع منها الاعتراف بالقوة، فأحضرت سيخًا وظلت تكوى به جسد الصغيرة بالنار إلى أن أغمى عليها ثم سحبتها إلى الحمّام وأغلقت عليها بابه، وتركتها بداخله إلى أن ماتت! وهى أيضا مشكلة الخادمة «محروسة» التى اشتغلت فى بيت فى شبرا، وكان أهل البيت قبل نومهم يعدون لها كل الملابس المتسخة لتسهر عليها حتى الثانية بعد منتصف الليل، وتنام بعد هذا العمل الشاق لتستيقظ فى السابعة صباحًا، وعندما احتجت على هذا العمل الشاق، اتهموها بسرقة أسورة ذهبية، ودخلت فى قضية خرجت منها ليشترط عليها أى صاحب مكتب تخديم قبل تشغيلها أن يأخذ منها نصف الأجرة شهريًا. ◄ ثورة في القصر إننا البلد الوحيد الذى يعتمد على الخدمة فى البيوت اعتمادًا كاملًا، وهذه ظاهرة توارثناها من المجتمع الرأسمالي، وتراكمت فيه إلى أن أصبحت آفة اجتماعية خطيرة.. وصحيح أننا فى مجتمعنا الجديد لا نعترف بكلمة خادم، ونؤمن بأنه لا مكان للخدم فى المجتمع الاشتراكي. ونحن فى سبيل ذلك نعمل على امتصاص أفراد هذه الطبقة فى المشروعات الصناعية التى تخطط فى ضوئها مستقبل بلادنا.. كل هذا صحيح لكن إلغاء هذه الفئة من مجتمعنا لن يكون فى يوم وليلة، لأننا لا نستطيع أن نصلح ما أتلفه الدهر آلاف السنين فى شهر واحد أو سنة واحدة، لذا فمن واجبنا أن نضع لأفراد هذه الفئة ضمانات وحقوقا. إن الخدم لهم مكان تحت الشمس فى كل بلاد العالم، وهم يعملون فى إيطاليا وغيرها من بلاد أوروبا بالساعة.. يتقاضون عن كل ساعة أجرًا مرتفعًا، لأنهم لا يعملون إلا فى بيوت القادرين أو الذين على جانب كبير من السعة فى العيش. وضمانات وحقوق الخدمة فى هذه البلاد تكفلها لهم النقابات ووزارة العمل، وتصوروا الضجة التى حدثت فى بريطانيا من أجل خادمة كانت تعمل فى قصر باكنجهام، وجاءت عليها رئيسة خدم جديدة فأمرت بنقلها من الغرفة التى تعمل فيها إلى غرفة أخرى، ورفضت الخادمة أن تنفذ أمر النقل واعتبرت أن نقلها تعدٍ صريح على كرامتها، ورفعت احتجاجًا إلى نقابتها ضد رئيسة الخدم بالتضامن مع القصر، وقامت ضجة أبرزت فيها الصحف الإنجليزية المشكلة واتهمت رئيسة الخدم بالقصر بالمعاملة السيئة، وتدخلت وزارة العمل فى هذه المشكلة وقالت كلمتها.. وكانت الكلمة عدم نقل الخادمة من غرفتها حفظًا لكرامتها وماء وجهها. ◄ تشغيل الأطفال والسؤال الآن: ما هو حل هذه المشكلة؟.. إن أكثر من عشرة من أساتذة الاجتماع والخبراء فى شئون الأسرة قالوا إنه لا بُد من تحديد ساعات العمل للخدم، حتى يشعر هؤلاء الناس أنهم يعملون لكسب لقمة عيشهم من عرق الجبين، وأنهم ليسوا عالة على البيوت. وعندما سألناهم عن الأطفال الذين يعملون فى البيوت وينامون فيها، قالوا إنه يجب أن يصدر أمر صريح بعدم تشغيل الأطفال فى البيوت، وفى الدولة ملاجئ ومؤسسات رعاية تستطيع أن تستوعب هؤلاء الأطفال الذين لا عائل لهم. وقال أحدهم إن أغلب هؤلاء الأطفال لا يلقون رعاية من أصحاب البيوت بل وكثير منهم ينام فى عز البرد على أرض الحمّام أو فى المطبخ أو على سلم الخدم. («آخرساعة» 5 سبتمبر 1962)