الطفلة الصغيرة بداخلى كانت أبداً لا تنام هادئة ليلة العودة إلى المدرسة.. فهى ليلة استثنائية بامتياز!.. ◄ أول سبتمبر! مع نهاية شهور الصيف.. وبداية نسمات الخريف وتغير لون أوراق الشجر.. وبداية شهر سبتمبر.. دائماً تستدعى ذاكرتى أيام العودة إلى المدرسة.. أيام الطفولة البريئة الجميلة.. وأيام الصبا والحلم والتطلع والحماس والرغبة فى معرفة المجهول واكتشاف الحياة.. أيام التلقى والاستقبال والاستيعاب والتعلم.. سنوات طويلة مضت إلا أنها ما تزال محفورة قائمة فى المخيلة!.. أنظر.. أدقق النظر.. وأتأمل.. هذه هى الطفلة الصغيرة بداخلى التى كانت لا تنام هادئة ليلة العودة إلى المدرسة.. فهى ليلة استثنائية بامتياز.. تختلط فيها مشاعر الفرح والقلق والسرور والشغف معاً.. ليلة أتعجل فيها الصباح وأنتظره بفارغ الصبر حتى أقفز من الفراش، وأغتسل سريعاً، ثم أرتدى الزى المدرسى (المريلة) ذات اللون الكحلى الغامق (صوف إنجليزي)، وربطة عنق بيضاء لإضفاء مزيد من الجدية والصرامة.. وجورب أبيض ناصع البياض تحت الركبة، وحذاء أسود جلد لميع بنعل كريب جديد لانج، وما يزال يحتفظ بشكله المشدود على القالب، ولم يتعرج ويلتوى بعد منْ فعل الاستخدام ليأخذ شكل القدم.. كان الزى المدرسى يمتلك رمزية خاصة.. فليس فقط أنه كان يعبر عن الهوية والانتماء لمؤسسة تعليمية محددة، بل كان أيضاً علامة على بداية مرحلة جديدة من الحياة أحببتها كثيراً وارتبطت بها.. ثم تأتى لحظة تصفيف الشعر لينسدل على ظهرى فى ضفيرة طويلة، تصنعها أمى بعناية، وتعقد نهايتها بشريط أبيض فيونكة.. أما شنطة المدرسة فلها قصة أخري.. فقد إستغرق إعدادها وتجهيزها أياماً حتى يكتمل تجليد الكراسات والكتب كل مادة بلون.. العلوم بالأزرق، والتاريخ بالأخضر، والحساب بالأصفر.. وهكذا كل المواد.. ثم ترتيب المقلمة لتضم الأقلام الرصاص والحبر والجاف والممحاة (الأستيكة) والبراية.. ولا يجب أن أغفل البرجل والمنقلة والمثلث.. وعلبة الألوان ذات الأقلام الخشبية، وعلبة أخرى أساسية للألوان الشمع.. إذن كل شيء أصبح جاهزاً.. فأنطلق فرحة سعيدة أقفز سلالم بيتنا رغم ثقل وزن حقيبتى المكتظة بمحتوياتها.. بعد أن تقبلنى أمى وإخوتى عند باب البيت مودعة، وهى تعطى كل منا كيساً مليئاً بالسندويتشات (عيش فينو جبنة بيضاء بالطماطم، وبيض بالبسطرمة، ومربى بالقشطة)، ويرتفع صوتها الحنون موصية «لازم تاكلوه كله.. عشان تكبروا وتبقوا حلوين».. وننزل أسفل فى انتظار أوتوبيس المدرسة!.. ◄ في المدرسة! كان النظام صارماً فى مدرستنا الراهبات الفرنسيسكان.. دقيقاً إلى أبعد الحدود.. يأخذ طابعاً رسمياً.. وهكذا فى جميع مدارس الراهبات.. فبعد القبلات والسلامات الحارة على زميلات المدرسة والفصل، وبعد بعض الدردشات والحكاوى البريئة حول أيام ومغامرات شهور الصيف.. نصطف جميعاً فى طوابير فى حوش المدرسة.. كل صف دراسى على حدة بمساعدة من الراهبات الإيطاليات اللاتى جئن من الفاتيكان، واهبات أنفسهن للعمل التربوى التطوعى فى مصر.. فكن ينتشرن كالنحل فى كل مكان بزيهن البنى الغامق والقميص الأبيض، بينما تربط كل منهن حزاماً مجدولاً بحبل تتدلى منه مسبحة مذيلة بصليب صغير.. ويسود الصمت، وتكتم الأنفاس حتى تكاد تسمع دبة النملة، بهدف الإنصات لخطبة عصماء حول أهمية التعليم والتربية والثقافة والانضباط، يلقيها علينا المدير «مسيو أنچلو»، ما أزال أتذكر ملامحه عن ظهر قلب بشعره الناعم الأسود الكثيف، ووجهه المستدير، وعينيه السوداوين، وصوته الغليظ، وقامته القصيرة، وكرشه المتدلى من بين جانبى سترته، وكأنه جوال قطن مدكوك!.. إلا أننا كنا نخشاه جميعاً ونحترمه.. ثم تنطلق «الصفارة» الطويلة إيذاناً برفع العلم وتحيته، وعزف السلام الوطني، لنشدو جميعاً فى صوت واحد أنشودتى المحببة التى تهتز لها مشاعري: «بلادى بلادى بلادى لك حبى وفؤادى»!. ◄ مدام دياكوميدس عشقت مدرستي، وارتبطت بها كثيراً.. وكنت مثالاً للتلميذة المنضبطة، وربما نما ذلك عندى وترسخ بسبب مدرسة اللغة الفرنسية يونانية الأصل «مدام دياكوميدس»، التى تحمل اسم زوجها.. أما اسمها هي، فظل مجهولاً بالنسبة لنا.. كانت حنوناً جداً، وجميلة، ولكن بحزم لا يلين.. بملامحها الدقيقة وشعرها البنى الذى يميل فى بعض خصلاته إلى اللون الأشقر، وعينيها العسليتين الضيقتين، وأنفها الدقيق، وابتسامتها الرقيقة التى تظهر غمازات خفيفة فى خديها.. هذه المعلمة الكريمة هى صاحبة الفضل، والتى أخذت بيدى وشجعتني، وخصتنى باهتمام بالغ بعد أن توسمت فيَّ خيراً.. والحمدلله لم أخيّب ظنها.. لتنقلنى من تلميذة متوسطة لم يكن قد اكتمل إنضباطها ووعيها بعد، إلى التفوق الدراسي، وخاصة فى المرحلة الثانوية التى كنت أنجح فيها بتقدير رفيع وجائزة شرف.. ورغم حرصى على التواصل وزيارة مدرستى وحتى اليوم.. إلا أننى للأسف أبداً لم ألتق بها بعد أن تركت المدرسة.. ولا أعرف إن كان ذلك بسبب بلوغها سن التقاعد، أم أنها تركت مصر عائدة إلى بلدها الأصلى اليونان!!.. ◄ مسيو موريس لم أكن من النابهات فى مواد الحساب (الجبر والهندسة)، فبطبيعتى أميل للتاريخ والعلوم الفلسفية والتفكير والتأمل.. إلا أن مسيو موريس استطاع بقدراته المميزة وشرحه الوافى أن يحببنى (إلى حد ما) فيهما، بما حقق لى النجاح المطلوب دون الرسوب.. خاصة بعد أن كنا (دفعتى فى المدرسة) شاهدات على قصة حبه لمدام سونيا الجميلة الجذابة مدرسة الكيمياء والطبيعة والفيزياء.. والتى كللت بالزواج.. والحمدلله.. نحرص أنا وبعض زميلات دفعتى على التواصل معهما.. وكم نشعر بالسعادة عندما نلمح فى عينيهما نظرات الفخر والاعتزاز بثمرة ونتاج تربيتهما.. فبيننا من صارت وزيرة، وأخرى طبيبة، وثالثة مهندسة، ورابعة فنانة، وخامسة محامية، ولكل منا قصة نجاح مختلفة.. فهما الغاليان جداً على القلب، أطال الله فى عمرهما وأمده!!. ◄ حنين للذكريات مع مرور السنوات.. وتحول الأيام إلى ذكريات.. أعود بين الحين والآخر بذاكرتى إلى تلك الفترة بحنين لا يمكن تفسيره!.. أتذكر صديقات الدراسة أتذكر حصص الرسم والموسيقى التى كانت تكسر رتابة الجدول اليومي.. وأتذكر إنتظارى بفارغ الصبر اليوم المدرسى لأنطلق فى اللعب واللهو!. لا شك أن السنوات التى مرت فى المدرسة قد تركت البصمة الأكبر فى تكوين شخصيتي، فقد علمتنى الكثير، وفتحت أمامى آفاقاً جديدة من المعرفة.. وربطتنى بعالم مليء بالقيم الإنسانية الرفيعة.. وغرزت بداخلى بذور العلم والفضيلة.. فلم تكن أبداً مجرد مرحلة عابرة فى الحياة.. بل كانت هى أساساً قوياً لكل شيء.. ربما تغيرت الحياة، وتغيرت معها المدارس وطرق التعليم.. لكن ذكريات تلك الفترة ستظل دائمًا محفورة فى قلبي.. تستدعيها نسمات الخريف مع كل عودة إلى المدارس، لتذكرنى بأيام غالية مضت، ولكنها أبداً لن تنسي.!