تحتل فنون الإنشاد الديني لدى المجتمع العربي ككل والمصري على وجه الخصوص، منزلة خاصة تصل إلى حد اعتباره أحد أهم الموروثات الشعبية السائدة بين مختلف طبقات المجتمع، وجزء أصيل من الهوية الثقافية المصرية.. وينسب الفضل فى ذلك لعدد من أعلام ورواد ذلك المجال من "أصحاب الحناجر الذهبية"، أمثال الشيخ علي محمود، وطه الفشنى، والنقشبندي، ونصر الدين طوبار، وغيرهم من رموز الإنشاد الذين نحتفي معهم بذكرى المولد النبوى الشريف، ومن تبعهم من منشدي الجيل الحالي ممن حملوا الراية وقرروا استكمال المسيرة بروح ورؤى تواكب متطلبات ذاك العصر. الكروان الزاهد الشيخ سيد النقشبندي .. " 1920 - 1976" يعد أحد أعمدة الإنشاد الدينى وأشهرها بين مختلف الأجيال، إذ قدم نموذجا فريدا وأكثر خصوصية بين جموع المبتهلين، وباتت أعماله الأكثر شهرة وتأثيرا لدى قطاعات عريضة من جمهور ومتذوقي فنون الإنشاد حتى بين أبناء الجيل الحالي من الشباب. حمل النقشبندي فنون الإنشاد والابتهال إلى مناطق أكثر قربا واتساقا بأفراد الجمهور العادى، وساعده في ذلك ما امتلكه من مقومات عدة، منها حلاوة الصوت وفرط الإحساس، فضلا عن أدائه الذي تميز بدرجة عالية من الخشوع، تأثرا بنشأته التى ارتبطت بدرجة كبيرة بأحد أشهر المدارس الصوفية في الذكر والمديح، "الطريقة النقشبندية" التى اكتسبت لقبها من جده الشيخ محمد بهاء الدين النقشبندي. هذه النشأة كان لها بالغ الأثر في ارتباط الشيخ النقشبندى بفنون الابتهال والمديح منذ الصغر، واطلاعه على العديد من قصائد ومؤلفات المديح التراثية كقصيدة البردة للإمام البصيري، وأشعار إبن الفارض وغيرهم. التحق النقشبندى بالإذاعة المصرية عام 1966, وكانت المحطة الأهم في مشواره كمنشد، وبدأ رحلته بتقديم عدد من التسجيلات الخاصة ببعض البرامج الإذاعية في ذلك الوقت، ومنها برنامج "في رحاب الله"، ومعها بدأ الشيخ النقشبندى التعاون مع بعض الموسيقيين، وكان أبرزهم محمود الشريف وسيد مكاوي وأحمد صدقي وحلمي أمين وبليغ حمدي، الذى جاء تعاونه معه بتوصية من الرئيس محمد أنور السادات، ليكشف عن مرحلة أكثر انفتاحا وتطورا في مشوار المبتهل الشيخ سيد النقشبندى، إذ كان تعاونهما الأبرز والأكثر ثراء بين مجموعة الموسيقيين الذين عمل معهم النقشبندى، حيث كانت نتيجة هذا التعاون 6 موشحات تعد من أشهر ما قدم النقشبندى فى مشواره كمبتهل. إمام المنشدين الشيخ علي محمود .. " 1878 م - 1946م" هو أحد أبرز أعلام مصر في مجال التلاوة والإنشاد الدينى، إذ تعددت إسهاماته وأعماله فى هذين المجالين، برع فى فنون الإنشاد إلى حد جعل منه مدرسة مستقلة بذاتها، وله العديد من التلاميذ سواء ممن عاصروه وتتلمذوا على يديه، أو ممن تبعوه وتربوا على صوته وأدائه الفريد، وأسلوبه المميز الذى مزج فيه بين الأصالة والحداثة فى الوقت نفسه. اشتهر الشيح الراحل على محمود أو "إمام المنشدين" كما كان يلقب بين محبيه وتلامذته، بصوته العذب وأسلوبه المميز إلى حد الندرة، وذلك نظرا لاهتمامه الشديد منذ بداية انجذابه لفن الإنشاد، بدراسة الموسيقي والتبحر فى علومها على يد العديد من المشايخ والموسيقيين بهذه الفترة، واستهوته علومها حتى أصبح مهتما بالتعرف على العديد من الثقافات الموسيقية المختلفة والسائدة فى ذلك العصر، ومنها الموسيقى التركية.. وقد كان لولعه واهتمامه الشديد بالموسيقى دورا كبيرا فى النقلة النوعية التى أحدثها فى فنون الإنشاد، وخاصة على مستوى الإيقاعات والقوالب الموسيقية المستخدمة، إذ سعى برؤيته الأكثر ميولا للحداثة والتطور إلى المزج بين الإيقاعات الشرقية النمطية التى كانت تستخدم فى فنون الإنشاد بذلك الوقت مع ما يقاربها ويتماشى معها من إيقاعات استلهمها من مدارس موسيقية أخرى مجاورة، ولذا يشار له بالفضل كونه واحد من أوائل المجددين فى هذا المجال الذين امتازت أعمالهم بالأصالة والتطور معا. لعب الشيخ على محمود دورا هاما في خدمة وتطور مجال الإنشاد، لم يقتصر دوره فقط على مستوى الأعمال أو بالأحرى الإرث الفني الكبير الذى تركه فى مختلف فنون الإنشاد من تواشيح وابتهالات، بل امتدت إسهاماته إلى إخراج جيل جديد من المنشدين والمبتهلين ممن تتلمذوا على يده وساروا على نهجة فى الابتكار والتجديد، وكان لهم فيما بعد دور كبير فى إثراء فنون الإنشاد بشكل عام، ومن بينهم "الشيخ طه الفشنى، والشيخ كامل يوسف البهتيمي، والشيخ محمد الفيومي، والشيخ عبدالسميع بيومي، ومن الموسيقيين موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وكذلك كوكب الشرق ام كلثوم، والتى بدأت حياتها كمنشدة ومبتهلة قبل أن تتجه إلى عالم الغناء. صوت السماء نصر الدين طوبار .. "1920 - 1986" تميز المبتهل الشيخ نصر الدين طوبار بخامة صوت ملائكية فريدة من نوعها، ذلك الصوت الذي ظل لسنوات طويلة علامة مميزة لإذاعة القرآن الكريم بين مختلف المحطات والإذاعات، من خلال ابتهالاته التى كانت تنطلق يوميا عبر أثير الإذاعة بين مختلف البرامج والفقرات. ولد الشيخ نصر الدين طوبار بقرية المنزلة بمحافظة الدقهلية عام 1920، بدأ مشواره بحفظ القرآن الكريم فى طفولته، وسرعان ما لفتت إليه الأنظار مبكرا نظرا لموهبته ورقة وحلاوة صوته، ولذلك حينما بلغ سن الشباب نصحه كثيرون من المحيطين به لاستغلال هذه الموهبة والتقدم لاختبارات الإذاعة، إلا أن البداية لم تكن سهلة، وفشلت كل محاولاته فى الالتحاق بها لست مرات متتالية، لكنه لم ييأس وأصر على محاولاته إلى أن قبل فى المرة السابعة، لكن تم قبوله في هذه المرة كمنشد ومبتهل.. فعلى الرغم من بدايته التى عرف خلالها كقارئ للقرآن، إلا أن شهرته وارتباط المستمعين عبر الإذاعة به كمنشد كان أقوى بكثير عنه كقارئ للقرآن. قدم الشيخ طوبار للإذاعة ما يزيد عن مائتي موشح وابتهال تميزت جميعها بخصائص وسمات مختلفة عما قدمه غيره من المنشدين، فإلي جانب صوته المميز، كان لدى الشيخ الراحل شغف وتذوق جيد للموسيقى منذ بداياته، مما دفعه لتعلم فنونها والاحتكاك بعدد من الموسيقيين في ذلك الوقت، وفي مقدمتهم موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، الذي نصحه بضرورة استغلال موهبته، والتركيز في مجال الابتهالات والتواشيح الدينية. وبمرور الوقت تعددت إسهاماته في مجال الابتهال، حتى أصبح ظهوره بمثابة نقطة تحول في مسار فنون الإنشاد الدينى بشكل عام، إذ تحرر على يديه إلى صورة أكثر تطورا وقربًا من الجماهير، سواء على مستوى الكلمة أو من حيث رشاقة الأداء ومرونته. كما كان حريصا على التنوع في مصادر أشعاره، إذ جمع خلال مشواره بين التعاون مع شعراء الفصحى والعامية وكتاب الشعر الغنائي، ومن هؤلاء الشعراء أمير الشعراء أحمد شوقى وصالح جودت وعبد الفتاح مصطفى ومرسى جميل عزيز، وشملت أعماله أيضا بعض مؤلفات الصوفية، منها للإمام البوصيرى والحصري القيرواني، وفي المقابل وضع لها كبار الموسيقيين فى ذلك الوقت الألحان والقوالب الموسيقية، ومنهم بليغ حمدي وكمال الطويل. ملك التواشيح الشيخ طة الفشنى .. "1900 - 1971" عرف الفشني بين جمهور ومحبي فنون المديح بألقاب عديدة، كان أشهرها "صاحب الحنجرة الذهبية، وملك القصائد والتواشيح، وكروان الإذاعة" إذ يعتبر المنشد والمبتهل الأكثر حصدا للألقاب بين جموع المنشدين، ولم يكن ذلك من فراغ، حيث تميز الشيخ الراحل بمقومات فنية عديدة جعلته الأبرز والأشهر فى زمانه بين عموم المنشدين بعد الشيخ على محمود، وأبرز هذه المقومات صوته القوى العذب، وأدائه الأكثر تأثيرا على مستمعيه. ولد الشيخ طه حسن مرسي الفشني عام 1900 بمدينة الفشن بمحافظة بني سويف، بدأ حفظ القرآن الكريم منذ طفولته بكُتاب القرية، إلى أن أتم حفظ القرآن كاملًا وهو في ال 12 من عمره، وحصل على كفاءة المعلمين من مدرسة المعلمين بالمنيا عام 1919، ليلتحق بعدها بالأزهر الشريف عام 1937، حيث تفرغ لدرسة علم القراءات والتجويد ومن ثم الإلتحاق بالإذاعة المصرية كقارئ للقرآن ومنشد بعد اجتيازه الاختبارات المحددة لها. يعتبر الفشنى صاحب مدرسة متفردة في عالم الإنشاد الدينى، نظرا لثقافته الدينية الواسعة وحفظة للقرآن الكريم، ولما تمتع به من مقومات فنية كعذوبة الصوت وقوة الاحساس والتأثير، إلى جانب اهتماماته الموسيقية واتقانه لعلوم النغم والمقامات، وإجادته التنقل بينها بمهارة فائقة وإتقان شديد.. وقد ساعده على تدعيم خلفيته الموسيقية حرصه على التعامل والاحتكاك بالعديد من الموسيقيين فى ذلك الوقت من بينهم " زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب"، كما كان عازفا ماهرا على ألة العود. قدم الشيخ الفشنى إرثا يعد من كنوز تراث الإنشاد الدينى بالاذاعة المصرية، والذى لا يزال حاضرا فى وجدان الكثيرين من عشاق ومتذوقى فنون المديح، فهو الذى شدى طربا فى ميلاد سيد الخلق الرسول الكريم سيدنا محمد صل الله عليه وسلم، منشدا "ميلاد طه" و أيها المختار"، وغيرها من التواشيح والابتهالات التى كانت ولا تزال تتصدر المشهد فى أغلب المناسبات الدينية إلى الآن. اقرأ أيضا: ياسين التهامي يتجلى على مسرح محكى القلعة في «ليلة الإنشاد» خادم الأحباب الشيخ ياسين التهامى أحد أهم وأبرز المنشدين المعاصرين وأشهرهم على الإطلاق، قدم على مدار تاريخ طويل تجربة فريدة وثرية فى عالم الإنشاد، قدم نموذج لمدرسة لاتقل فى أهميتها وثقلها عن مدارس الرواد والمؤسسين. بدأ الشيخ ياسين مشواره مع المديح والإنشاد فى سن مبكر من خلال حفلات الذكر والمديح التى كانت تقام على هامش احتفالات الموالد الشعبية والأفراح، لكنه ومنذ بدايته تميز بعدة سمات إلى جانب الموهبة وحلاوة الصوت، أولها اعتماده بدرجة كبيرة على أشعار الفصحى بدلا من العامية، لكبار شعراء الصوفية أمثال "عمر بن الفارض، والحلاج، والسهروردي، ومحيي الدين بن عربي" حيث يحسب له أنه أعاد هذا النمط من جديد فى وقت كانت فيه الغلبة للكلمة "العامية" فى أغلب أنشطة المديح، فضلا عن إجادته وإتقانه الشديد لقواعد اللغة العربية، والذي مكنه من حسن التعامل مع هذه الأشعار والتعبير عنها بإحساس مفرط. وبرغم أن الشيخ ياسين قد أسس دعائم مدرسته فى الإنشاد على قالب يقترب بدرجة كبيرة إلى المدارس الصوفية سواء من حيث الأداء ونوعية الأشعار، إلا أنه لعب دورا كبيرا فى تطوير أداء هذه المدارس واتساع قاعدتها من المتذوقين والمحبين، كما نجح أيضا فى الخروج بقالبها المحلى إلى ما هو أقرب للعالمية، ونجح فى نقلها من الساحات واحتفالات الموالد إلى المسارح الأوبرالية. بعد أن أصبحت مسيرة الشيخ ياسين التهامي معروفة في جميع أنحاء مصر، تجاوز صيته الحدود الوطنية ليبلغ قمة الشهرة في أوروبا، حيث شارك في العديد من الحفلات على أبرز مسارح القارة الأوروبية مثل لندن وباريس وبرلين ومدريد، وكتبت عنه العديد من الصحف العالمية حتى أطلقت عليه الصحف الإسبانية فى مطلع التسعينات ب "ظاهرة الشرق"، ولم يكن هذا اللقب الوحيد الذي أطلق على الشيخ ياسين، حيث أطلق عليه محبيه ألقابا عديدة، منها "شيخ المنشدين وكروان الصعيد وبلبل الصعيد"، لكنه كان يفضل دائما أن يطلق عليه "خادم الأحباب".