وكان نتيجة ذلك أن الكتابة اليدوية على الورق صارت بالفعل فى غالبها مثل نكش الفراخ حسب توصيفنا للخطوط غير الجميلة بل أشبه باللوغاريتمات عصية الفك والقراءة.. تصادف وجودى بنقابة الصحفيين وأنا أملأ استمارة للتقديم لمسابقة تخص الكتابة الصحفية أن كان زميل آخر كاتب صحفى يملأ استمارة أخرى لنفس المسابقة، وما كاد الزميل يصل للسطر الأخير ويفرغ من كتابة استمارته ويوقع باسمه أسفلها؛ حتى ألقى بالقلم من يده فى حالة استياء من أصابعه التى لم تحسن التحكم فى القلم فخرج خطه اليدوى أشبه بنقوش مرتعشة غير واضحة المعالم. ونظرت إلى استمارتى فلم يكن الحال أسعد حظًا وهالنى سوء ما خطته أصابعى وقد كان خطى مما يوصف بالوضوح على أضعف الفروض، حتى لو لم يكن مما يوصف بالجمال المعروف للخطوط العربية. وانتبهت إلى أن عدة سنوات من اعتمادنا على لوحة المفاتيح «الكيبورد» أوجدت نوعًا من استغراب الإمساك بالقلم ولخبطة الخطوط اليدوية وخروج نقوش غريبة عن خطوطنا اليدوية المعتادة. بل زاد الأمر سوءًا وتعجيزًا للأصابع وجود برامج الكتابة التى تترجم الأصوات إلى حروف وكلمات، فضلًا عن برنامج يترجم خطوط أصبع المستخدم على شاشة المحمول إلى كتابة بحروف الكيبورد أو لوحة المفاتيح. وكان نتيجة ذلك أن الكتابة اليدوية على الورق صارت بالفعل فى غالبها مثل نكش الفراخ حسب توصيفنا للخطوط غير الجميلة بل أشبه باللوغاريتمات عصية الفك والقراءة. الأحد: الريشة والقلم الجاف لقد تطورت تاريخيًا أدوات الكتابة المعروفة لنا حتى صارت على ما نعرفه اليوم؛ فقد كان العرب أول من استخدموا قلم الحبر بصورة قريبة من صورته العصرية، حيث اخترع العالم العربى عباس بن فرناس فى القرن الثالث الهجرى/ التاسع الميلادى قلم الحبر، وكان عبارة عن اسطوانة تتغذى بحبر سائل يستخدم للكتابة. لكن استخدام قلم الحبر بشكله البسيط كان فى مصر فى الألف الأولى قبل الميلاد، حيث استخدم المصريون فى البداية قصبًا سميكًا للكتابة فى عام 300 قبل الميلاد، كما تم استخدام الريشة فى إشبيليه فى القرن السابع، حيث سهّلت الريشة عملية الكتابة لسهولة التحكم فيها وكذلك القراءة، ويتم غمس طرف الريشة فى وعاء الحبر ثم الكتابة على الورق بالطريقة التى يراها الكاتب مناسبةً له، وقد استمر استخدام الريشة فى الكتابة فى قارة أوروبا حتى منتصف القرن التاسع عشر، وبعدها حل محل الريشة الأقلام المعدنية التى تحتوى بداخلها على الحبر، وظهرت النماذج التجارية لأقلام الحبر فى عام 1895م. أما قلم الحبر العصرى السائل فقد تم اختراعه على يد العالم الأمريكى المخترع لويس أديسون ووترمان المولود فى عام 1837م، أما الصحفى المخترع لاسيزلو بيرو المولود فى المجر عام 1899م فقد قام باختراع أول قلم حبر جاف فى عام 1938م، حيث لاحظ بيرو أن الحبر الذى يتم استخدامه فى طباعة أوراق الصحف يجف بسرعة لذلك قرر أن يخترع قلم حبر يقوم على تركيب كرة صغيرة دوّارة على طرف القلم، وأثناء تحرّك القلم على الورقة فإن الكرة تدور وتترك الحبر على الورقة ويجف بسرعة، وقد تم استخدام قلمه من قبل سلاح الجو البريطانى فى الحرب العالمية الثانية، كما قام بتسجيل براءة اختراع له فى العديد من الدول الأوروبية، وتُوفى بيرو فى عام 1985م. الاثنين: قانون الاستعمال والإهمال من أخطر نتائج ثورات تكنولوجيا المعلومات أن الاعتماد على الكتابة اليدوية صار نادرًا، وهو ما يخضع اليد البشرية لقانون الاستعمال والإهمال ويؤثر بدوره على أجزاء فى المخ البشرى. وبالفعل فقد حذر خبراء روس مؤخرًا من تحول الكتابة باليد إلى مجرد هواية مثل الموسيقى والرسم؛ مشيرين إلى أهميتها فى تنمية المهارات الحركية وتطوير الدماغ البشرى من خلالها. وشددوا على أنه إذا توقف الشخص عن الكتابة باليد فإن جزءًا معينًا بالمخ يبدأ بالضمور.. إنه الوجه القاتم للتكنولوجيا، وهو ما تنبهت إليه أخيرًا دول كثيرة فى الغرب وآخرها إيطاليا حيث أصدرت الحكومة الإيطالية، قرارًا يحظر الهواتف المحمولة داخل الفصول الدراسية، فى العام الدراسى الجديد بالمدارس. واستحدث الإجراء وزير التعليم جوزيبى فالديتارا بهدف تحسين سلوك التلاميذ، بالإضافة إلى أنه سوف يشجع التلاميذ على تحسين مهارات الكتابة بخط اليد. وقال وزير التعليم الإيطالى: «نحن بحاجة لجعل أبنائنا يمسكون بالورقة، والقلم مجددًا. ويقول الخبراء التربويون إن الكتابة بخط اليدّ عند الأطفال أمر أساسى وضرورى لتعزيز مهاراتهم المعرفية. فالأطفال الذين يتعلمون الكتابة بخط اليد ورسم الأشكال يستفيدون أكثر من أولئك الذين يتعلمون القيام بذلك من خلال وسائل تكنولوجية. كما أظهرت دراسات عدّة أنّ الأطفال الذين يكتبون بخط اليد فى طور نموهم لديهم قدرة أكبر على الاحتفاظ بالذاكرة، فضلًا عن أن استخدام الورقة والقلم يعزّز الإبداع ويحفّزه لأنّ عملية كتابة شيء أو رسمه باليد تتطلب وقتًا أطول من طباعته على الكمبيوتر ممّا يخلق وقتًا للإبداع. .. إن أخطر ما فى إهمال الأصابع هو الوجه القاتم للتكنولوجيا الذى يستكمل حصار العقل بمخترعات التكنولوجيا واستسلام الأجيال الشابة والصغيرة حاليًا لتجميد أهمية أصابعهم تمامًا كما صار الحاسب الآلى وآلته الحاسبة اختيارًا سهلًا لأبسط المعاملات المالية فى البيع والشراء وصار إجراء عملية حسابية بسيطة بالنسبة لأى بائع من الأمور الصعبة التى يقف العقل إزاءها شبه عاجز عن تلك العملية البسيطة ضربًا وقسمة أو جمعًا وطرحًا، ولست أدرى لو أن هاتف أحدهم بآلته الحاسبة فقد شحنه فماذا يفعل هذا الذى يصيب عقله بالشلل وتفكيره بالعجز؟ الثلاثاء: وماذا بعد؟ وبحكم عملى بالتصحيح اللغوى تذكرت أصول الموضوعات والمقالات والحوارات التى كانت كتابتها تتم باليد من المحرر أو الكاتب ويتميز كل منهم بخط مختلف فى دقائقه وتفاصيله عن غيره، وكانت الآلة الكاتبة حلًا سحريًا للبعض، بينما كانت الغالبية تتلذذ بالكتابة بيدها فيخرج منها خطوط جميلة وبعضها كان يستطيب الكتابة بخطوط عربية بشكل جمالى مثل الكوفى وكان منهم الكاتب الكبير الراحل جمال الغيطانى بل كان هناك من يفضل الكتابة بالقلم الرصاص ليسهل محو الخطأ وتصحيحه أثناء الكتابة وكان من هؤلاء الكاتب المسرحى الكبير الراحل نعمان عاشور الذى كان خطه بحكم كتاباته الكثيرة والطويلة لا يتمتع بجماليات، وكان عملاق الصحافة المصرية الحديثة مصطفى أمين ممن عاصرت خطوطهم المنمقة فضلًا عن دقة المكتوب لغويًا ونحويًا. وكان الراحل الكبير محمد وجدى قنديل رئيس تحرير مجلة «آخر ساعة» سابقًا صاحب أدق الخطوط وأصغرها، والذى لقبه الراحل الكبير أنيس منصور بأنه آلة كاتبة بشرية فقد كانت دقة كتابته اليدوية تمكنه من كتابة عشرين كلمة فى السطر الواحد، بينما كان الغموض يسيطر أحيانًا على كتابة البعض وكأن القلم كان يجرى من يده على السطور فيخط ما تيسر ويترك لمن يقرؤه فطنة التفسير وتخيل ما يريد قوله، بل أتذكر أن البعض كان أحيانًا ما يكتب كلمة مبهمة فى القراءة غير واضحة فيضطر من يقوم بجمع المقال أن يضع علامات الاستفهام بديلًا للكلمة المبهمة ويترك استيضاح الكلمة على عاتق قسم التصحيح بمعرفتها من خلال السياق أو وضع بديل لها أو الرجوع لكاتب المقال، وفى الغالب كنا نتمكن من فك لغز الكلمة المبهمة وأحيانًا كنا نضطر لوضع بديل، وأحيانًا أخرى كنا نسأل كاتب الكلمة المبهمة فكان يضحك أحيانًا ويقول: والله ما انا فاكر كنت كاتبها إيه مشّوها زى ما تمشوها! ويبقى السؤال الحائر: هل تختفى الكتابة اليدوية وتندثر صناعة الأقلام الحبر والجاف وتتأثر صناعة الورق كاملة وهل تختفى أراشيف المستندات الورقية من دهاليز الدوائر الحكومية والوثائق السرية المكتوبة على الأوراق خاصة بعدما صارت العملية التعليمية ذاتها لا تعتمد غالبًا على الكتابة اليدوية والأوراق؟ الإجابة صعبة وإن غدًا لناظره لقريب.